القول بأن النقاد أهملوا نجيب محفوظ فترة طويلة. فلم ينتبهوا إليه إلا بعد روايته التاسعة "بداية ونهاية". وهو ما أكده الفنان في أكثرمن حوار صحفي. كقوله "حياتي بدأت بإهمال طويل. وانتهت باهتمام كبير. ثم قوله فيما بعد "ضاع وقت جيلنا في تحطيم الحواجز".. هذا القول. فيه الكثيرمن الصحة. ولكن من الصعب وربما من الظلم أيضا أن نغفل دور الناقدين الكبيرين سيد قطب وأنور المعداوي. وأقلام نقدية أخري. داخل مصر وخارجها. أذكر تمني سيد قطب عند صدور "كفاح طيبة" أن لو كان الأمر في يده لطبع آلاف النسخ من هذه الرواية. لتكون في يد كل شاب. ولتدخل كل البيوت. ثم أكد الناقد أن كاتب الرواية يستحق التكريم والاجلال "الرسالة 3/10/1944". وتحدث سيد قطب عن "خان الخليلي" فأكد أنها تستحق أن يفرد لها صفة خاصة في سجل القصة المصرية الحديثة. وهي تستحق هذه الصفة. لأنها تسجل خطوة حاسمة في طريقنا إلي أدب قومي واضح السمات. متميز المعالم. ذي روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب الأجنبية مع انتفاعه بها نستطيع أن نقدمه مع قوميته الخاصة علي المائدة العالمية فلا يندغم فيها. ولا يفقد طابعه وعنوانه. في الوقت الذي يؤدي فيه رسالته الانسانية. ويحمل الطابع الانساني العام. ويساير نظائره في الآداب الأخري. أما أنور المعداوي. فقد كتب عن رواية محفوظ "بداية ونهاية" انها دليل عملي علي أن الجهد والمثابرة جديران بخلق عمل فني كامل. وأضاف الكاتب: لقد أتي علي وقت ظننت فيه أن نجيب محفوظ قد بلغ غايته في "زقاق المدق". وانه لن يخطو بعد ذلك خطوة أخري إلي الأمام. أقول غايته هو لاغاية الفن. لأن "زقاق المدق" كانت تمثل في الظنون أقصي الخطوات الفنية بالنسبة إلي امكانياته القصصية. ولهذا خيل إلي أن مواهب نجيب قد تبلورت هنا. وأخذت طابعها النهائي. وتوقفت عند شوطها الأخير. ومما أيد هذا الظن أن المستوي الفني في "السراب" وقد جاءت بعد "زقاق المدق" كان خطوة واقفة في حدود مجاله المألوف. ولم تكن الخطوة الزاحفة إلي الأمام كان ذلك بالأمس. أما اليوم. فلا أجد بدا من القول بأن "بداية ونهاية" قد غيرت رأي في امكانيات نجيب. وجعلتني أعتقد أنه قد بلغ الغاية التي كنت أرجوه لها. غايته هو غاية الفن حين كانت الغايتان مطلبا عسير المنال. إنني أصف هذا الأثر القصصي الجديد لهذا القصاص الشاب. بأنع عمل فني كامل. هذا الوصف. أو هذا الحكم. مرده إلي أن أعماله الفنية السابقة كانت تفتقر إليها علي الرغم من المزايا المختلفة التي تحتشد بين يدي صاحبها. وتحدد مكانه في الطليعة من كتاب الرواية "نماذج فنية من الأدب والنقد: أنور المعداوي لجنة النشر للجامعيين ص186". وبالطبع فإن الالتفات إلي أعمال نجيب محفوظ. والاهتمام بها. لم يقتصر علي المعداوي وقطب. ثمة قطاع مهم من المثقفين والقراء العاديين. وجدوا في أعماله نقلة للرواية العربية وأذكر أني كتبت من قبل: نجيب محفوظ كنز اكتشفناه نحن. ولم ينبهنا إليه الأجانب. اكتشفه من قرأ له. وأعجب به. ووجد فيه مثلا أعلي. والقول بأن نجيب عاش يكتب خمسين سنة دون أن يكتشف أي ناقد في مصر أنه عملاق. هذا القول مشكلة الكاتب الشخصية. مشكلة أنه قرأ محفوظ كما قرأ الآخرين. فلم تتوضح له الفوارق بين حجم الفنان نجيب محفوظ وأحجام الآخرين أما نحن الذين قرأنا نجيب محفوظ جيدا. واستوعبناه جيدا وتفهمناه جيدا. وعرفنا مدي خطورته وتأثيره وجدواه. واتخذناه مثلا أعلي. ربما حتي في سلوكياتنا الشخصية. فإننا نزعم باكتشاف كنز نجيب محفوظ منذ "خان الخليلي" التي يمكن أن نؤرخ بصدورها بدء تطوير فن الرواية في بلادنا. حقيقة أن النقد لم يتناول أعمال محفوظ بالكم الذي تناول به تلك الأعمال عقب صدور زقاق المدق في طبعتها الشعبية. أذكر حفاوة أستاذتنا سهير القلماوي بالزقاق في حديث إذاعي وإعجاب المثقفين بها. إلي حد إقدام الصديق الناقد المخضرم توفيق حنا علي وضع دراسة نقدية عن الرواية. فاق عدد صفحاتها صفحات الرواية نفسها. وإن لم يتح لتلك الدراسة أن تصدر بعد! لكن التفات النقد لم يكن خيرا كله. وبالذات في أواسط الخمسينيات. قبل أن يصبح محفوظ هذه المؤسسة القومية. كما وصفه لويس عوض فيما بعد. فقد شنت عليه حرب قاسية لأسباب أيديولوجية محضة. قدرت بعض الأقلام النقدية أن أدبه يعبر عن نقيضها. ولولا عناد الثيران الذي وصف به محفوظ نفسه. في مقابل التجاهل النقدي. ثم في مقابل التسلط النقدي. لأسكت قلمه. خاصة وأن السينما كانت قد وهبته كلمة السر التي يستطيع بها أن يغترف ما يشاء من مغارتها السحرية. كان قد أصبح كاتبا للسيناريو مرموقا. وأذكرك بالخبر الذي نشرته مجلة أسبوعية آنذاك عن التقاء الفنانة هدي سلطان بالقاص يوسف جوهر وكاتب السيناريو نجيب محفوظ. لمراجعة سيناريو فيلمها القادم!.. دنيا! كان نجيب محفوظ يلح علي أنه يكتب للقاريء المصري. لكنه فيما أتصور كان يدرك أنه أديب مصري لكل العالم. أذكر ملامحه المتأثرة وهو يحدثني عن الحفاوة النقدية والشعبية بأعماله في امتداد الوطن العربي: هل تصدق أنه لم يترجم لي عمل واحد حتي الآن؟!.. وألف التواضع في أحاديثه وتصرفاته. لكن طموحاته المشروعة كانت بلا آفاق!.. وقد عاني محفوظ في أعوامه الأخيرة حملة إعلامية أخيرة لابتزازه بتصريحات ملونة وذات ضجيج اتهامات غير مسئولة بأنه رجل كل العصور. بمعني أنه هادن كل السلطات. في كل العهود. فلم ينله رذاذ من الأذي الشديد الذي لحق بالكثير من المبدعين والمفكرين. والحق أن أعمال كاتب ما لم تواجه سذاجة التأويلات. بل سوء نيتها. مثلما واجهت أعمال نجيب محفوظ كل يحاول تفسيرها بما يرضي اتجاهه. بصرف النظر عن ذلك الاتجاه ومدي اقترابه من الأعمال أو ابتعاده عنها. لقد أسقط الفنان من أحداث التاريخ في رواياته الفرعونية علي أحداث معاصرة. وعبر في روايات مرحلة الواقعية الطبيعية عن أحداث معاصرة لم تخذله موهبته ولا ثقافته المتفوقة في تقديم صياغة فنية ناضجة. وأكثر تفهما لمتطلبات التكنيك الروائي. قياسا إلي إبداعات سابقة ومعاصرة.. أذكر قوله لي: الأدب له حيل لا حصر لها. فهو فن ماكر. وليس وضعه وضع الفكر المباشر. أنت كمفكر مباشر تقول كلاما واضحا. ولكن الأديب لديه الرمز. ولديه أمور أخري يستطيع بواسطتها أن يتحايل فيعبر عن كلمته بشيء من اليسر لا يتاح عادة للمفكر. أما العقبة الأولي فهي فقدان الحرية. بل إن "أولاد حارتنا" التي كاد يدفع حياته مقابلا لإبداعها يجد يحيي حقي أن الفنان "حقق بها ماعجز عنه غيره من الكتاب. حقق الأمل الذي كنا نتطلع إليه. وهو ارتفاع الأدب عندنا إلي النظرة الشاملة والتفسير الفلسفي الموحد للبشرية جمعاء. ووضع تاريخ الانسانية كله في بوتقة واحدة. نجيب محفوظ هو التعبير الأصدق. ربما من كتابات المؤرخين. عن صورة المجتمع المصري في مراحل متعاقبة من حياته.. والمتأمل لآرائه التي تضمنتها أعماله. أو آرائه التي نقلتها وسائل الاعلام. يلحظ أنه كان دوما إلي جانب اليقين الديني والعلم والعدالة الاجتماعية. فضلا عن أنه كانت له آراؤه التي نختلف فيها معه وأزعم أني كنت أول المخالفين لتلك الآراء في كتابي "نجيب محفوظ صداقة جيلين" وهي تتصل بقضية الصراع العربي الصهيوني وإن ظل للرجل في نفسي مكانة الرائد. والأستاذ. والوالد. والقيمة الكبيرة!.