نجيب محفوظ قاهري في معظم ابداعاته.. إذا استثنينا توظيفه للتاريخ الفرعوني. فإن القاهرة هي حدود هذه الابداعات بدءا بأولي قصصه القصيرة الي أحدث تلك القصص. مرورا بما يبلغ 35 رواية. وحوالي ثلاثمائة قصة قصير.. وكما يقول. فهو قد عاش حياة القاهرة. وكان علي حد تعبيره شوارعيا بكل معني الكلمة.. والحق أني لا استطيع أن أنسي الكثير من شخصيات محفوظ.. كم التقيت في الطريق بأحمد عبدالجواد وياسين وفهمي وكمال وكامل رؤبة لاظ ونفيسة وحسن ابوالروس وحسنين كامل علي ومحجوب عبدالدايم واحسان شحاته وسعيد مهران وصابر الرحيمي وعمر الحمزاوي وعيسي الدباغ وأحمد عاكف وعباس الحلو وحميدة وفرج ابراهيم. وعشرات غيرهم أجاد الفنان رسم ملامحهم الظاهرة وتحليل نفسياتهم. في أعماله. مع ذلك فأنت تستطيع التعرف الي أبعاد الحياة المصرية في قراءتك لأعمال نجيب محفوظ.. التاريخ والجغرافيا والمعتقدات والعادات والتقاليد والتطورات السياسية.. لاتقتصر مكونات الصورة البانورامية علي روايات مرحلة الواقعية الطبيعية. منذ "خان الخليلي" الي الثلاثية. لكنك تجد تفصيلات مهمة من الصورة في "اللص والكلاب" و "السمان والخريف" و"الطريق" و"الشحاذ" الي "قشتمر" آخر أعمال محفوظ الروائية. انه ليس زولا مصر. ولاجبرتي مصر الحديثة.. انه نجيب محفوظ الذي لايكتفي بالتصوير شأن المدرسة الواقعية الطبيعية. ولابمجرد التسجيل التاريخي أو الاجتماعي. شأن المورخين. لكننا نجد - في مجموع اعماله - نظرة كلية. نظرة شاملة. فلسفة حياة. وظني ان نجيب محفوظ خدع الكثيرين. ممن وجدوا فيه روائيا فقط.. الرواية هي الابداع الأهم للرجل. لكنه مارس كل ألوان الكتابة بدءا بالمقال الفلسفي. فالترجمة. فالقصة القصيرة. والرواية والسيناريو السينمائي. والمسرحية. والخاطرة. طال توقفه امام بعض تلك الالوان. مثلما حدث في المقال الفلسفي والسيناريو. واكتفي - احيانا - ببضع محاولات. مثلما فعل في مسرحياته ذات الفصل الواحد. والتي كانت انعكاسا لرغبته في إثارة حوار حول بواعث هزيمة يونيو 1967 ولعلي اختلف مع الفنان في قوله "1980" انه لم يحاول ان يكتب سيرته الذاتيه. ذلك لانه كان قد اعلن - قبلا - انه كمال عبدالجواد في الثلاثية. وكان الاعداد الأول ل"المرايا" ان تكون سيرة ذاتية للفنان. وتراجم لأبطال رواياته. لم يتناول النقد أعمال محفوظ بالكم الذي تناول به تلك الاعمال عقب صدور زقاق المدق في طبعتها الشعبية. أذكر حفاوة استاذتنا سهير القلماوي بالزقاق في حديث إذاعي. وإعجاب المثقفين بها. الي حد إقدام الصديق الناقد المخضرم توفيق حنا علي وضع دراسة نقدية عن الرواية. فاق عدد صفحاتها الرواية نفسها. وان لم يتح لتلك الدراسة ان تصدر بعد!.. لكن التفات النقد لم يكن خيرا كله. وبالذات في اواسط الخمسينيات. قبل ان يصبح محفوظ هذه المؤسسة القومية. كما وصفه لويس عوض فيما بعد. فقد شنت عليه حرب قاسية لأسباب ايديولوجية محضة. قدرت بعض الاقلام النقدية ان أدبه يعبر عن نقيضها. ولولا عناد الثيران الذي وصف به محفوظ نفسه. في مقابل التجاهل النقدي. ثم في مقابل التسلط النقدي. لاسكت قلمه. خاصة وان السينما كانت قد وهبته كلمة السر التي يستطيع بها ان يغترف ما يشاء من مغارتها السحرية. كان نجيب محفوظ يلح علي انه يكتب للقارئ المصري. لكنه - فيما اتصور- كان يدرك انه أديب مصري لكل العالم. ولعل موقف محفوظ الفكري والاجتماعي والسياسي في آن. يتبدي في أعقاب نكسة 1967 مباشرة. كان حرصه علي وضوح عمله الفني هو الارضية التي تقف عليها أعمال تلك الفترة وان يكون الصدق جسر علاقته بقرائه. حتي لو عاد بفن القصة العربية- كما قال لي - الي احد اشكاله الأولي. المقامة. أو يكتب خطبا ووعظا أو موضوعات انشائية تغيب عنها لغة الفن. لذلك فإن بعض النقاد يعتبر السياسة هي المحور الرئيسي في حياة محفوظ. وفي فكره وفنه. وأنها المؤثر الاول في تكوينه العقلي. والدافع المحرك لتوجهاته الادبية. ولعلي اوافق نجيب محفوظ علي رأيه بأن ما تعانيه مصر من أزمات متوالية للاسف. يحتاج اخلاص مواطنيها وهم لن يستطيعوا الاخلاص في أعمالهم إلا إذا شعروا بأنهم محترمون. وأن مصر هي مصرهم. مثلما هي مصر الاخرين. نجيب محفوظ هو التعبير الاصدق. ربما من كتابات المؤرخين. عن صورة المجتمع المصري في مراحل متعاقبة من حياته.. والمتأمل لآرائه التي تضمنتها أعماله. أو آرائه التي نقلتها وسائل الاعلام. يلحظ انه كان دوما الي جانب اليقين الديني والعلم والعدالة الاجتماعية. فضلا عن انه كانت له آراؤه التي نختلف فيها معه.. وأزعم أني كنت أول المخالفين لتلك الآراء في كتابي "نجيب محفوظ صداقة جيلين" وهي تتصل بقضية الصراع العربي الصهيوني. وان ظل للرجل في نفسي مكانة الرائد والاستاذ. والوالد. والقيمة الكبيرة!