فاجأ آبى أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، شعبه والعالم باعتراف صادم، بأن سد النهضة يواجه مشكلات خطيرة قد تعرقل إتمامه، وأنحى باللائمة على شركة (ميتيك) التابعة للجيش الإثيوبي، لأن أخطاءها وإدارتها (الفاشلة)، أدت لعدم إنجاز المشروع فى الوقت المحدد، معلنا التعاقد مع مقاول آخر، لأن استشارى المشروع شركة (ساليني) الإيطالية تطالب بغرامات عن التأخير؛ وقال آبى بمرارة: لقد سلَّمنا مشروعا مائيا معقدا إلى أناس لم يروا سدا فى حياتهم، وإذا واصلنا السير بهذا المعدل، فإن المشروع لن يرى النور. تصريحات آبى تلقى بظلال كثيفة على المشروع الذى يعد أكبر سدود إفريقيا، بقدرة توليد 6 آلاف ميجاوات، أى ثلاثة أضعاف كهرباء السد العالى، ويمكنه تخزين 74 مليار متر مياه، بتكلفة خمسة مليارات دولار، وتعول عليه أديس أبابا لسد حاجتها من الكهرباء وتصديرها. التصريحات تحمل انتقادا غير مسبوق للمؤسسة العسكرية الإثيوبية، يفاقم الأمر اللحظة التاريخية، فالرجل الذى تولى الحكم فى مارس الماضى هو أول رئيس وزراء من عرقية الأورومو فى تاريخ إثيوبيا، وبرغم خططه الإصلاحية، وترحيبه بالتفاوض مع المعارضة المسلحة داخليا، وتحركاته التوافقية مع دول الإقليم، مثل زياراته مصر وإريتريا وأوغندا، فإن ثمة صعوبات محلية تواجهه كالدولة العميقة المتغلغلة بالأمن والاقتصاد، بخاصة عرقية التجراى التى حكمت إثيوبيا 27 عاما. تعرض آبى أحمد لمحاولة اغتيال منذ شهرين، عقب عزله قيادات مرتبطة برئيس الحكومة السابق ميريام ديسالين، وقبل نحو شهر عثر على جثة سيميجنى بيكيلى مدير سد النهضة مقتولا فى ظروف غامضة. وربما تكون تصريحات آبى الجريئة بخصوص السد جزءا من إزاحة بعض مراكز القوى فى السلطة وخلخلة مواقع البعض، لإحباط محاولاتهم إثارة القلاقل التى تهدد خططه التوافقية والتنموية لتغيير وجه الحياة فى بلاده، عبر مكاشفة الشعب بالحقائق وإرادة الإصلاح ومكافحة الفساد..إذ من المستبعد تماما أن يكون الهدف النهائى من التصريحات وقف بناء السد، إنه مشروع قومى لا يستطيع رجل أن يلغيه بجرة قلم، ما حدث فشل إدارى يجرى معالجته، خاصة أن الرجل نفسه أكد أن سد النهضة أيقونة لكل الإثيوبيين، وإنجازه بنجاح يشكل علامة فارقة ومقياسا لنجاح المشروع الوطنى الإثيوبى، أيضا لا يمكن إغفال أن المشروع مرتبط بتوجهات الرأسمالية العالمية وقوى إقليمية ودولية. بالنسبة للمصريين، فإنه ربما كان أهم ما كشفت عنه تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبى هو سلامة المواقف المصرية تجاه سد النهضة، فقد بح صوت القاهرة وهى تطالب بضرورة إفساح المجال للتأكد من الدراسات الفنية للسد، على أيدى خبراء محايدين ومكاتب استشارية دولية، وهو ما قابلته أديس أبابا بالرفض والمماطلة واستنزاف الوقت والإسراع بالبناء، منذ وضعت حجر الأساس فى أبريل 2011، وقد اكتمل 66% من الإنشاءات، حتى فجر آبى أحمد قنبلة من العيار الثقيل، بإزاحة الستار عن مواطن الخلل فى تنفيذ الجوانب الكهروميكانيكية للمشروع، مما يلقى بظلال الشك فى سلامة تصميم السد وإنشائه وإدارته، ومدى مراعاة المواصفات اللازمة فى مشروع عملاق كهذا، تمتد تأثيراته وآثاره الجانبية إلى دولتى المصب مصر والسودان، ولاشك فى أن ذلك يعزز حجية الموقف التفاوضى المصرى بقوة، القيادة المصرية تعى ذلك، زيارة وزير الخارجية ومدير المخابرات العامة للعاصمة الإثيوبية تصب فى هذا الاتجاه، أى التوافق. هنا نقطة تحول مفصلية ينبغى اغتنامها، إذ أثبتت القاهرة حسن نياتها، وافقت على إعلان المبادئ عام 2015 بالخرطوم، وعلى إنشاء السد بوصفه رافعة لتنمية الشعب الإثيوبى، مقابل ضمان عدم انتقاص حصة مصر التاريخية، النيل بالنسبة إليها ضرورة وجود وفاصل بين الحياة والموت، ومن ثم لا تفرح مصر ب (الفشل الإثيوبى)، بل تواصل البحث عن مصلحة مصر وإثيوبيا والسودان، وأتصور أن من أهم آليات تعظيم المصالح المشتركة: إعادة النظر بمواصفات السد، ارتفاعه وخزانه وقدرته على التصريف، وسنوات الملء، الإدارة المشتركة عبر اتفاق مكتوب، المبادرة بتقديم الخبرات الهائلة لدى الجانب المصرى للأشقاء، فقد بنينا السد العالى وقناطر إسنا ونجع حمادى وأسيوط، لدينا شركات كبرى والهيئة الهندسية للقوات المسلحة، تستطيع سد نقص واضح لدى الإثيوبيين، لتلافى العيوب بجسم السد. إن الاحتقانات تختمر فى إثيوبيا لإفشال آبي، وللقاهرة مصلحة حيوية فى استقرارها، لقطع الطريق على مثيرى الفتن والشقاق، بالداخل والخارج، ولعل الإثيوبيين يدركون أن التعاون والازدهار أفضل من احتمالات الفوضى فى منطقة هشة يريدها البعض أن تشتعل!. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبو الحسن