الرأى الشائع أن الفلسفة وُلدت فى ملطية وهى إحدى المدن الأيونية ببلاد اليونان. وكان المولَد لها اسمه طاليس، ولهذا قيل عنه إنه أول فيلسوف فى رفقة ثلاثة آخرين اشتركوا كلهم فى البحث عن أصل الأشياء. وكان عليهم الاختيار بين عالمين: عالم قيل عنه إنه ما بعد الطبيعة أو ما فوق الطبيعة، وعالم آخر قيل عنه إنه الطبيعة. العالم الأول يموج بآلهة مقيمة عند قمة جبل الأولمب يتزاوجون ويمرحون ويعبثون بأحوال البشر، والعالم الثانى على نقيضه يموج بمادة قيل عنها إنها مادة حية هى أصل الأشياء. وحيث إن العالم الأول أقرب إلى الأسطورة من العالم الثانى فانحازوا إلى الثاني، ومن ثم قيل عنهم إنهم الطبيعيون الأولون بسبب امتناعهم عن مجاوزة الطبيعة، ولكنهم تفرقوا بعد ذلك فى تحديد أصل الأشياء، فقال طاليس إنه الماء وقال أنكسمندريس إنه اللامتناهى بدعوى أن الماء لا يصلح أن يكون الأصل لأنه محدد وشرط الأصل ألا يكون محدداً. وقال أنكسمانس إنه الهواء بدعوى أنه لامتناه ويحيط بالعالم ويحمل الأرض. وقال هرقليطس من مدينة أفسس إن الأشياء فى تغير متصل، ولا أدل على ذلك من أنك حين تنزل النهر الواحد مرتين فإن مياهاً جديدة تجرى دائماً أبداً. أما أصل هذه الأشياء فهو النار لأنها قابلة للتغير، ولكنها فى تغيرها محكومة بالعقل والذى اسمه باليونانية اللوغوس الذى يرفض الأسطورة الذى اسمها باليونانية ميثوس. ومع ذلك فإن الخشية من تجاوز الطبيعة إلى ما بعدها أدى إلى ظهور السوفسطائيين، أى المعلمين. وكانت الغاية من ظهورهم إزالة هذه الخشية. وفى هذا المعنى قال كبيرهم بروتاغوراس فى مفتتح كتابه المعنون الحقيقة: «لا أستطيع أن أعلم إن كان الآلهة موجودين أم غير موجودين» فاتهم بالالحاد وأحرقت كتبه وحكم عليه بالاعدام إلا أنه فر هارباً ومع ذلك غرق فى مياه النهر. وبعد السوفسطائيين جاء سقراط الذى سار فى المسار نفسه إذ ارتأى أن صور الآلهة عند الانسان زائفة إذ هى لا تتطابق مع ما ينبغى أن تكون عليه الآلهة، إذ لم يكن فى مقدوره معرفة ما يروق من الأعمال فى أعين الآلهة، وأيها ما لايروق، ومن ثم ارتأى أن الدين يلزم أن يكون محصوراً فى الضمير النقى وليس فى تقديم القرابين وتلاوة الصلوات مع تلطخ النفس بالاثم. وفى هذا السياق تقدم ثلاثة بعريضة إلى القضاء فى عام 399 ق.م. يقررون فيها أن سقراط ينكر آلهة المدينة ويقول بغيرهم وبذلك يفسد عقول الشباب فحكم عليه بالاعدام فنفذ الحكم وذلك بأن شرب الكأس حتى النهاية وبلا تردد. وتأسيساً على إصدار حكم بالاعدام على كل من بروتاغوراس وسقراط بدأ التفكير فى صورة عن الله تكون مفارقة لهذا العالم المحسوس. وكانت البداية عند أفلاطون تلميذ سقراط. والسؤال اذن: ماذا كانت صورة الله عند أفلاطون؟. على حائط معبد دلف حرف E. وقيل عن هذا الحرف إنه يشير إلى جواب الانسان عن سؤال موجه من الله. عندما تقترب من المعبد يقول لك الله : اعرف نفسك. وأنت تجيب: أنت، أيها الاله، موجود، وأنت وحدك الموجود بمعنى الكلمة. أما الموجودات الأخرى بمن فيها نحن فليس لها وجود حقيقى لأنها ليست ثابتة، وأنت لا تستطيع الامساك بها. الله وحده هو الموجود وبدون حدود فى الزمان لأنه أبدي، ومن ثم فهو يتجاوز الحركة والزمان والتغير. ولهذا يقال أيضا أنت الواحد ولكنه لا يُرى ولا يٌعبر عنه بالألفاظ اللغوية وليس فى مقدور الانسان فهم طبيعته. ومع ذلك تصور أفلاطون عالماً آخر مغايراً لهذا العالم المحسوس وأطلق عليه عالم المُثل. ثم راح بعد ذلك يرتب المُثل ترتيباً تصاعدياً حتى انتهى إلى ثلاثة مُثل: الخير والحق والجمال، وأعلاهم مثال الخير. وهنا قال أفلاطون: كما أن الشمس هى مصدر الضوء والحياة فى هذا العالم كذلك الحال فى عالم المُثل فإن مثال الخير هو مصدر النور والحياة، ومن ثم فهو الله، وهو مفارق للعالم المحسوس. ومن هنا أصبح لفظ مفارق ملازما للفظ ما بعد الطبيعة أو ما فوق الطبيعة لعلو موضوعه وهو الله. وفى هذا السياق من التلازم أسس أرسطو تلميذ أفلاطون علماً جاء على هيئة مقالات بدون تحديد لاسم هذا العلم. وقد ارتأى أحد أتباع أرسطو أن هذه المقالات تأتى فى الترتيب بعد علم الطبيعة فأطلق عليها ذلك التابع اسماً مأخوذاً من مكانتها فى الترتيب وهو اسم « ما بعد الطبيعة». ولكن مع التطور أصبح هذا العلم يختص بالبحث فى ثلاثة أمور: الله وخلود الروح وحرية الانسان. والسؤال بعد ذلك: ماذا كانت صورة الله عند أرسطو؟. جاء جواب أرسطو مخالفاً لرأى أفلاطون، إذ ارتأى أرسطو أن الله عند أفلاطون مجرد فرض يمتنع وصفه أو فهمه. ولكى يكون الله على غير ذلك فقد ارتأى أرسطو أن الله هو المحرك الأول وهو غير متحرك، يحرك ولا يتحرك، وبالتالى فإن الحركة، فى هذه الحالة، تكون أزلية. وإذا كانت الحركات أزلية ومتعددة لزم القول بمحركين أوائل أزليين قد يصل عددهم من 47 إلى 55 وهى الكواكب. وهنا لا يفترق أرسطو عن الجماهير إذ كانت الجماهير، فى حينها، تقول عن هذه الكواكب إنها الهة، ولهذا أضيفت إليها أساطير وتصورات حيوانية وبشرية. وفى هذا السياق يمكن القول إن صورة الله عند الانسان تنطوى على تناقضات يلزم إقرارها. والسؤال بعد ذلك: هل يصلح هذا القول أن يكون معبراً عن صورة الله عند الانسان فى أى زمان؟. لمزيد من مقالات ◀ د. مراد وهبة