كثر الحديث والجدل كثيرا حول حقيقة عجز الموازنة، وذلك بعد تصريح د. محمد معيط وزير المالية حول تحقيق الموازنة العامة للدولة. لأول مرة لفائض أولي، والذى حظى بنقاشات واسعة خاصة لدى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث خلط البعض بين العجز او الفائض الاولى وعجز الموازنة وهو ما دفع البعض لتشبيه هذا الحديث بما سبق ان ذكره وزير المالية والاقتصاد الأسبق د عبد الرزاق عبد المجيد رحمه الله، حين تحدث عن فائض الموازنة وأقسم امام البرلمان بأنه صحيح وقد كان صادقا بالفعل، ولكن المسألة تدخل فى المفهوم الذى يتبناه حيث صدر خلال تلك الفترة القانون رقم 11 لسنة 1979 القاضى بتعديل بعض أحكام قانون الموازنة والذى تم بمقتضاه استبعاد الهيئات الاقتصادية، وأصبحت الموازنة لا تشتمل على موازنات الهيئات العامة الاقتصادية وصناديق التمويل ذات الطابع الاقتصادى التى يصدر بتحديدها قرار من رئيس مجلس الوزراء ويعد بشأنها موازنات مستقلة تقدم من وزير المالية الى مجلس الوزراء لإحالتها الى البرلمان لاعتمادها. وتقتصر العلاقة بين هذه الموازنات والموازنة العامة، للدولة على الفائض الذى يؤول للخزانة العامة وما يتقرر لها من قروض ومساهمات. وهو ما أثر بدوره على أوضاع الموازنة وحققت الفائض. اذ إن اختيار مفهوم مناسب للعجز يعتمد على كل من تعريف الحكومة الذى تتبناه الموازنة العامة. وهنا توجد عدة مفاهيم لعجز الموازنة يجب إيضاحها، فمثلا يوجد العجز النقدى وهو فرق المصروفات (وتشمل الأبواب الستة الأولى من أبواب الاستخدامات)، والإيرادات (وتشمل الأبواب الثلاثة الأولى من أبواب الموارد)، وهذا المؤشر يعكس مدى قدرة الموارد المتاحة للدولة من ضرائب ومنح وإيرادات أخرى فى تغطية أنشطة الدولة المختلفة ومن بينها الإنفاق الاستثمارى، اما العجز الكلى فهو يشمل العجز النقدى مضافا إليه صافى الحيازة من الأصول المالية (وهو عبارة عن متحصلات الإقراض ومبيعات الأصول المالية بدون حصيلة الخصخصة مطروحا منه حيازة الأصول المالية المحلية والأجنبية بدون مساهمة الخزانة العامة فى صندوق تمويل الهيكلة)، ويتم تمويل العجز الكلى للموازنة من خلال الاقتراض، وإصدار الأوراق المالية بخلاف الأسهم، مضافا اليه صافى حصيلة الخصخصة. وهذا هو المصطلح المستخدم حينما نتحدث عن عجز الموازنة. أما العجز الاولى فهو يقيس مدى الاستمرارية فى السياسة المالية، وقدرتها على خدمة الدين العام دون ضغوط اقتصادية او تضخمية، وهو عبارة عن العجز الكلى مطروحا منه مدفوعات الفائدة منسوبا إلى إجمالى الناتج. وهو مؤشر مهم جدا لأنه وطالما ان سعر الفائدة على الدين العام يتجاوز المعدل الأسمى للنمو الاقتصادى فان الدين العام سوف يميل إلى النمو بوتيرة أسرع من إجمالى الناتج المحلي، إلا إذا كان لدى البلد فائض أساسى فى الموازنة. وكلما اتسعت الفجوة بين سعر الفائدة ومعدل النمو الاسمي، كبر حجم الفائض الأساسى المطلوب للحفاظ على نسبة الدين إلى الناتج. وهكذا يؤثر معدل النمو الحقيقي، على أوضاع الدين الحكومي، فنمو الاقتصاد بخطوات أبطأ من سعر الفائدة الحقيقى يترتب عليه نمو الدين بخطوات أسرع من قدرة الحكومة على سداده. وبالتالى فإن استهداف سقف محدد لنسبة الدين يتطلب سياسة اقتصادية تحقق نموا اقتصاديا أعلى من سعر الفائدة، وفى الوقت نفسه تحقق فائضا أوليا كلما أمكن، ووفقا لهذا التقسيم يجب الملاحظة ان الموارد ليست كلها إيرادات إذ إن الايرادات هى التى لا تنشئ التزاما بالسداد، وبالتالى فلا تعد القروض مثلا ايرادا، وبالمثل ليست كل المدفوعات مصروفات، فسداد أقساط القروض لا يعد مصروفا لأنه نتيجة لالتزام سابق نشأ حين تسلمت الحكومة القرض، غير أن مدفوعات الدين تعتبر مصروفا. ومن هنا فانه وعند تقييم الوضع المالى للدولة، عند نقطة زمنية معينة، يجب التزام الحذر بشكل خاص فى تفسير الإيرادات او المصروفات التى تنشأ من التغييرات فى وضع صافى ثروة الدولة. ويركز البعض على العجز الجارى باعتباره احد العناصر المهمة فى هذه المسألة، خاصة انه يستخدم كمقياس للادخار الحكومى، ومن ثم مقياس لمساهمة الحكومة فى الادخار المحلي، والذى يقاس بالفرق بين الناتج المحلى الإجمالى بالأسعار الجارية والاستهلاك النهائى (عام وخاص) خلال فترة زمنية معينة، وينقسم الهيكل القطاعى للادخار بين الادخار الحكومى والادخار غير الحكومى، ويتمثل الأول فى رصيد الموازنة العامة للدولة (الفائض او العجز)، بينما الثانى يتعلق بادخار القطاع العائلى والقطاع المالى والقطاع الخاص، وبمعنى آخر فان الفرق بينهما هو الذى يستنزف المدخرات المحلية، وبالتالى فمن الضرورى أن يراعى دائما التوازن فى الموازنات الاستهلاكية دون أعباء على المدخرات المحلية. وعلى الرغم من أهمية دراسة العجز الجارى إلا انه يقوم على افتراض أساسى يزعم ان الإنفاق الاستثمارى الحكومى كله مرغوبا فيه، ويسهم فى النمو وهى مسألة محل شك كبير، وهناك العديد من الأمثلة لمشروعات استثمارية عامة مسرفة فى الإنفاق، كما أن الإنفاق على الاستثمار وإهمال الصيانة مثلا يؤدى إلى آثار سلبية على النمو إذ يمكن أن يؤدى ذلك إلى التدهور السريع لرأس المال العيني، كما يمكن ان تؤدى السياسة التى تركز على خلق طاقات جديدة مع السماح بتدهور البنية الأساسية القائمة إلى نتائج وخيمة على النمو اذ ان انعدام الصيانة يؤدى الى نفقات رأسمالية أعلى على المدى الطويل. إن تحديد خطورة العجز من عدمه يرتبط بالأساس بالحالة الاقتصادية للبلاد، فإذا كانت الدولة فى حالة كساد فان السعى نحو تحقيق التوازن المحاسبى فى الموازنة يعتبر هدفا غير سليم من المنظور المجتمعى، اذ يسهم فى المزيد من التباطؤ الاقتصادي. أى ان هدف الإنماء الاقتصادى يحظى بالأولوية فى السياسة الاقتصادية حتى ولو جاء على حساب التوازن المالي. اذ ان زيادة الانفاق العام مع ما يترتب عليه من زيادة للقوى الشرائية للمجتمع كوسيلة للانتعاش الاقتصادى تصبح امرا مطلوبا حتى ولو تم ذلك على حساب المزيد من الاقتراض. وهنا يرى كينز ان العبرة ليست بالتوازن الحسابى للموازنة، وإنما بالتوازن المالى عبر الدورة الاقتصادية التى تمتد الى فترة زمنية تتراوح بين ثمانى وعشر سنوات. فالتوازن المحاسبى ليس مقدسا، او مهما فى ظل التوازن المالى على المدى البعيد. لمزيد من مقالات ◀ عبدالفتاح الجبالى