شهدت الآونة الأخيرة اهتماما متزايدا على جميع المستويات النظرية والعملية، وكذلك فى مختلف الدول المتقدمة والنامية، بكفاءة إدارة المالية العامة وبصفة خاصة إدارة الإنفاق العام والدين العام من جهة وبعملية صنع الموازنة ومدى الشفافية التى تتمتع بها من جهة اخري. وذلك بعد أن تفاقمت العجوزات فى موازنات هذه الدول بصورة كبيرة،وأدت الى المزيد من الاقتراض ومن ثم زيادة الدين العام. وبالتالى تركز الكتابات الحديثة فى المالية العامة على فكرة الاقتدار المالى وهى تشير ببساطة إلى إن السياسة المالية تصبح غير قابلة للاستمرار إذا أدت إلى تراكم الدين العام بشكل يفوق قدرة الحكومة على خدمة هذا الدين على المدى المتوسط والمدى الطويل. لذا فان تقييم هذه الأوضاع على إنها غير قابلة للاستمرار فى المستقبل قد يشير إلى ضرورة إجراء تغييرات فى السياسة الراهنة. وبمعنى آخر يجب ان تسعى الدولة دائما الى التأكد من قدرة اقتصادها على تحمل مستوى الدين العام ومعدل نموه، ومن امكانية خدمة هذا الدين فى كل الظروف والاحتمالات المختلفة. وعلى الرغم من ذلك فان الأدبيات لم تنبئنا بنسبة معينة من الدين العام الى الناتج يمكن اللجوء إليها بحيث يصبح تجاوزها يهدد الاستقرار الاقتصادى الكلي. وان كان البعض قد لجأ إلى النسبة التى تم التوصل إليها فى إطار اتفاقية ماسترخت للوحدة الأوروبية وهى 60 % إلا أن هذه النسبة يؤخذ عليها عدة أمور أولها ان هذه النسبة وضعت فى إطار الاتفاق على التوحيد النقدى اى إنشاء عملة أوروبية موحدة وهو أمر يختلف تماما عن تقييم السياسة المالية فى حد ذاتها. ثانيا ان هذه البلدان تختلف اختلافا كبيرا من حيث مستوى التطور الاقتصادى والاجتماعى بها وبالتالى لا يجوز اللجوء إليها باعتبارها المرجعية الأساسية فى هذا المجال.ومن ثم فان تحديد مستوى معين للدين العام يتوقف على طبيعة كل دولة على حدة ومدى التطور الاقتصادى والاجتماعى والظروف المحيطة بها والاحتمالات المستقبلية للنمو...الخ من العوامل الاساسية. عموما فإن ازدياد الدين العام إلى الحد الذى يتعذر معه ببساطة الاستمرار فى تحمل أعبائه على المدى البعيد يشير إلى ضعف المالية العامة. وبعبرة اخرى فإن القدرة على تحمل الدين تتوقف على سعر الفائدة ومعدل النمو الاقتصادى ونسبة الرصيد الأساسى للموازنة (اى العجز الاولى للموازنة وهو عبارة عن العجز الكلى مطروحا منه مدفوعات الفائدةإلى إجمالى الناتج). ومادام ان سعر الفائدة على الدين العام يتجاوز المعدل الأسمى للنمو الاقتصادى فان الدين العام سوف يميل إلى النمو بوتيرة أسرع من إجمالى الناتج المحلي، إلا إذا كان لدى البلد فائض أساسى فى الموازنة. وكلما اتسعت الفجوة بين سعر الفائدة ومعدل النمو الاسمي، كلما كبر حجم الفائض الأساسى المطلوب للحفاظ على نسبة الدين إلى الناتج. وهكذا يؤثر معدل النمو الحقيقي، على أوضاع الدين الحكومي، فنمو الاقتصاد بخطوات أبطأ من سعر الفائدة الحقيقى يترتب عليه نمو الدين بخطوات أسرع من قدرة الحكومة على سداده. وبالتالى فإن استهداف سقف محدد لنسبة الدين يتطلب سياسة اقتصادية تحقق نموا اقتصاديا أعلى من سعر الفائدة، وفى الوقت نفسه تحقق عجزا أساسيا لا تزيد نسبته على مقدار محدد. وهناك جدل كبير فى مصر حول تعريف الدين العام وبالتالى قيمه ومؤشراته وهنا ينبغى لنا ان نضع بعض التفرقة المهمة فى هذا المجال فهناك اولا الدين العام والذى ينقسم بدوره الى دين عام محلى وآخر خارجى وكل منهما ينقسم الى الدين على الحكومة ونقصد بها القطاعات المنضوية تحت جناح الموازنة العامة للدولة، ثم الدين المستحق على الهيئات الاقتصادية واخيرا الدين المستحق على باقى قطاعات المجتمع والمقترضة من بنك الاستثمار القومي.كما ان هذا الدين يقاس على الاساس الإجمالى اى القيمة المطلقة للأموال المدينة بها الجهات سالفة الذكر، ويقاس ايضا بالقيمة الصافية اى بعد استبعاد مالدى هذه القطاعات من ودائع لدى الجهاز المصرفي. من هذا المنطلق فإننا سوف نقتصر فى التحليل على الدين العام المستحق على أجهزة الموازنة والذى ارتفع من نحو 555 مليار جنيه فى نهاية يونيو 2006 الى 967 مليارا فى نهاية يونيو 2010 والى 2085 مليارا فى نهاية يونيو 2015 وأخيرا وصل الى 2374 مليارا فى نهاية ديسمبر 2015.مع ملاحظة ان نسبته الى الناتج قد انخفضت من 90 % خلال عامى 2006 و2010 ثم ارتفعت الي86.7% عام 2015. وعلى الجانب الآخر فقد ارتفعت قيمة خدمة الدين الحكومى من 61 مليارا عام 2005/2006 الى 99 مليارا عام 2009/2010 قبل ان تقفز الى 410 مليارات عام 2014/2015 شكلت الفوائد نحو 193 مليارا بنسبة 26.3% من اجمالى مصروفات الموازنة وبلغت الأقساط المسددة خلال نفس العام نحو218 مليار جنيه يرجع السبب الرئيسى والأساسى فى ازدياد قيمة الدين العام الى الزيادة المستمرة فى عجز الموازنة حيث وصلت قيمة العجز الى 279 مليار جنيه (بنسبة 11.3% من الناتج) عام 2014/2015 مقابل 98 مليار جنيه (بنسبة 8%) عام 2009/2010ويرجع ذلك بالأساس الى الزيادة المستمرة فى المصروفات العامة والتى تزيد بمعدلات اعلى كثيرا عن معدل نمو الايرادات العامة. وهنا تجدر الاشارة الى ان العجز الاولى للموازنة والذى يظهر الاثر الاقتصادى للمعاملات الحكومية عن طريق تقدير الاثار المترتبة على النفقات والايرادات العامة بعد استبعاد الفوائد الناتجة عن معاملات حكومية فى سنوات سابقة عن السنة المالية محل التحليل قد ارتفع الى 3.6 % عام 2014/2015 وهو معدل مرتفع للغاية بكل المقاييس العلمية. وعلى الجانب الآخر فإن عجز الموازنة وما يرتبط به من اللجوء للاقتراض من الأسواق المحلية عبر طرح أذون وسندات على الخزانة العامة يؤدى إلى تحفيز أصحاب الثروات على الاستثمار فى هذه الأصول عديمة المخاطر وذات الفائدة المرتفعة وبالتالى يؤثر بالسلب على الاستثمار المحلي، هذا فضلا عن تأثيرها على الائتمان المقدم للقطاع الخاص ومن ثم الحد من قدرات الجهاز المصرفى على توفير التمويل اللازم لهذا القطاع.حيث يفضل الاستثمار فى أوراق الدين العام على حساب تمويل التنمية وعلى الجانب الاخر فان ارتفاع اسعار الفائدة على اذون الخزانة يؤدى الى زيادة عبء الدين العام المحلى ومن ثم زيادة عجز الموازنةوالتى تلجأ بدورها الى طرح المزيد من الاوراق المالية الحكومية وهكذا ندخل فى دائرة مفرغة وتفاقم من عجز الموازنة العامة للدولة. مما سبق يتضح لنا ان الدين العام الحكومى يحتاج الى وضع استراتيجية متكاملة لإدارته ادارة اقتصادية سليمة تضمن عدم تعرض الاقتصاد القومى لأى ازمات مالية او اقتصادية وبالتالى يجب ربط إدارة الدين العام بإطاراقتصادى كلى تسعى الحكومة من خلاله لضمان القدرة على الاستمرار فى تحمل مستوى معين للدين ومعدل نموه.وبالتالى يجب ان تضع نصب أعينها عدة أمور منها تدبير التمويل من القطاع غير الحكومى لتغطية الاحتياجات وتخفيض تكلفة الاقتراض الى أدنى حد، أخذا بالحسبان التنسيق مع السياسة النقدية.من هذا المنطلق فإن علاج الاوضاع الحالية يتطلب وضع حزمة من السياسات الاقتصادية بعضها يتم تنفيذه على المدى القصير والبعض الآخر على المدى البعيد والمتوسط. وذلك عن طريق ادارة التدفقات النقدية ادارة جيدة، تضمن الحد من اعباء التأخيروإعادة هيكلة الدين العام الحكومي. وتخفيض أعباء خدمة الديون عن طريق الاستفادة من المصادر المحلية والخارجية الأقل تكلفة. وربط التمويل الخارجى بحزمة متكاملة من القروض والمنح وفقا لشروط كل قرض وطبيعة المشروع. هذا فضلا عن ضرورة علاج المشكلة الأساسية الخاصة بعجز الموازنة وذلك بالتحرك فى العديد من المجالات لإحداث النقلة المطلوبة فى المالية العامة ، سواء تمثل ذلك فى العمل على تنمية الموارد المحلية عن طريق توسيع الطاقة الضريبية لتشمل كل قطاعات المجتمع وهو ما يتطلب رفع الوعى الضريبى والعمل على دمج القطاع غير الرسمى فى الاقتصاد القومى واصلاح النظام الضريبى والإدارة الضريبية. ومن جهة أخرى العمل على رفع كفاءة الإنفاق العام خاصة فى مجالات الاهتمام الأساسى كالتعليم والصحة وتخليصه من التشوهات التى تحد من فاعليته وهو ما يتطلب إعادة الاهتمام بموازنات البرامج والأداء كوسيلة مثلى لإحداث هذه المسالة. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي