توقفت كثيرا أمام رسالة الموقف العصيب التي روت فيها كاتبتها قصتها مع زوجها الذي ألقي بالعبء كله عليها, وكانت دائما علي خلاف معه, وعندما أنجبت طفلها الأول زادت مشاجراتهما. ورأت أن استمرار الحياة معه مستحيل, فلجأت إلي أبيها الذي طالبها بالعودة إلي زوجها, ورأب الصدع الذي أصاب حياتهما حتي تحافظ علي صورتها وصورة الأسرة في نظر من حولهم, ولكي ينشأ الأبناء بين أبويهم نشأة طبيعية وسليمة, وقالت إنها قاطعت أباها وأمها ولم تزرهما إلا عندما مرض الأب ولزم الفراش وطلب رؤيتها, فذهبت إليه, ورجاها أن تسامحه قائلا لها إنه إذا كان قد رفض تطليقها من زوجها فإنه فعل ذلك من أجلها, لكنها لم ترد عليه وانصرفت من أمامه, ولم تمض ساعات حتي رحل عن الحياة دون أن يسمع منها كلمة حلوة, ولو علي سبيل ترضية الخاطر. لقد قرأت هذه الرسالة بإمعان شديد, ووجدتني أمسك بالقلم لأكتب إليك قصتي ولكي أقول لها: احمدي ربك علي ما أنت فيه, وتواصلي مع زوجك وأحفادك ووالدتك, وحاولي أن تتقربي إلي زوجك عسي أن يهديه الله, واطلبي الرحمة لوالدك, وإني أسألك يا أختي: ماذا سيكون رد فعلك لو حصلت علي الطلاق الذي كنت تسعين إليه بإصرار, ثم حدث لك ما تندمين عليه بقية حياتك كما حدث لي؟. وإليك يا سيدي قصتي التي لم أحكها لأحد, وظللت أكتمها في صدري, فأنا مهندسة في الخمسينيات من عمري, ومن ينظر إلي يدرك أنني حنون, وأسعي إلي عمل الخير, ومساعدة كل محتاج, وأحاول مد جسور الصلح بين المتخاصمين, وهذا هو سر جاذبيتي, ومنبع احترام زملائي لي, فكل من يعرفني أو يتعامل معي يشعر بأنني أمه أو أخته. أما عن حياتي فقد نشأت في أسرة طيبة يجمعها الحب والسعادة, وتزوج كل إخوتي إلا أنا, حيث ظللت أرفض زيجات أكثر من ممتازة بلا سبب واضح للآخرين وكل ما في الأمر بالنسبة لي أنني لم أجد مع أي ممن تقدموا لي راحة نفسية منذ المقابلة الأولي, وفسر البعض رفضي الدائم للعرسان بأنه ربما يكون معمولا لي عمل, ولأننا أسرة متدينة, فلم ألق بالا بهذا التفسير, واعتبرت عدم زواجي قدرا, ولا راد لمشيئة الله, وظللت أحترم أبي وأمي إلي أن لقيا وجه ربهما, وعندما توفيت أمي كان عمري واحدا وخمسين عاما, وكنت قد عزفت وزهدت عن الدنيا, واعتبرت أنني كبيرة في السن, ولا يصح أن أتزوج في هذا العمر. وفي فترة حدادي علي أمي كان أحد زملائي في العمل يراقبني ويتابع تصرفاتي وتحركاتي دون أن أشعر به, وهو متزوج ولديه أربعة أولاد وزوجته مريضة, وهي أصغر مني بعامين, وكان هو أيضا في الخمسينيات ثم توفيت زوجته, وبعدها بشهور حاول لفت نظري إليه بالإشادة ب ي أمام الزملاء, لكني لم أعره أي اهتمام, وحدثني أكثر من زميل عن الارتباط به بإيعاز منه, لكني خفت من تحمل مسئولية أبنائه الأربعة, وكان أكبرهم وقتها في الفرقة الأولي بالجامعة, وأصغرهم في الصف الأول الابتدائي.. ولكن زميلي هذا لم يتركني في حالي, وحاصرني بمشكلاته وطلبات أولاده حتي وجدتني مشغولة بهم, وأشعر بأنهم أولادي, ويجب أن أقف إلي جوارهم, ونجح في السيطرة علي قلبي, فأحببته هو وأولاده برغم أنني لم أرهم, حيث تعاملت معهم من خلال صورهم, وعن طريق بعض المكالمات التليفونية, وكنت كلما تفرجت علي محلات الملابس, أحلم بأن أشتري لهم ما يحبونه. واتفقنا علي الزواج لكننا أجلناه إلي حين استقرار الأولاد بناء علي طلبه, فلقد كان أحد أبنائه في الصف الثاني الثانوي, وأهمل مذاكرته بعد وفاة والدته وانصرف تماما إلي متابعة الإنترنت, وراح أبوه يلاحقه في كل مكان خوفا علي مصلحته.. ولما قال لي ذلك وجدتني مصرة علي أن أكون بجانبه, ولا أتعجل الارتباط به, لكل ما لمسته من تصرفاته أوحي لي بأنني قسمته ونصيبه, وساندته بما أملك من قوة, ولم أبخل عليه بعواطفي ومالي, وصممت أذني وأغلقت قلبي أمام عروض الزواج التي أتت لي بها زميلاتي, واستمررنا علي هذه الحال خمس سنوات كاملة, وانتظرت اللحظة التي يكلل فيها حبي له ومجهودي معه بالزواج. ثم توالت الأحداث تباعا فتخرجت ابنته وتزوجت وأنجبت, وتخرج ابنه الثاني في كلية مرموقة, والثالث الذي كان محور مشكلة أبيه علي حد زعمه في الصف الثالث بكليته.. وأما ابنه الأصغر ففي الصف الثالث الإعدادي, وهو بالذات الذي ملك علي فؤادي وكنت أكلمه في التليفون حينما يتصل بأبيه في وجودي, وكثيرا ما أرسلت إليه الهدايا مع والده, بإحساس الأم التي لم تلده. وترقي زميلي من مهندس صغير إلي رئيس قسم ثم مدير إدارة, وساندته كثيرا ووجدتني أسيرة حبه وأنا في هذه السن, وكنت أفهم ما يريده قبل أن ينطق به, وأختار له ملابسه, وكان هو الآخر يفهمني بسرعة.. وصرنا روحا واحدة في جسدين. ووسط هذه المشاعر الفياضة, والحب الكبير صحوت ذات يوم علي صدمة زلزلت كياني ودمرت حياتي, فلقد تزوج حبيبي فجأة من فتاة تعمل في إدارة أخري بالشركة نفسها, وعلمت أنه تزوجها دون أن يتعرف عليها حيث رشحتها له إحدي الزميلات, مع أن هذه الزميلة كما هو معروف بيننا تسعي إلي تدميره بشتي الطرق, وتكرهني أنا الأخري, وقد بيتت النية علي أن تفسد علاقتنا, ونجحت فيما خططت ودبرت له. والحقيقة أن المفاجأة كانت قاتلة, وقد ألم بي الشديد, ولازمني البكاء ليلا ونهارا, وعندما عاد من إجازة الزواج, قلت له: أتمني لك حياة سعيدة, فلم يرد وتجاهل ما قلته له, ولما ذكرته بالسنوات الخمس التي قضيتها في انتظاره قال لي: إنه لم يعدني بالزواج فرددت عليه بأن الله شاهد علي كل شيء. ورجعت إلي منزلي, وأدرت شريط الذكريات مع نفسي وأنا غير مصدقة ما سمعته, وكأن شخصا آخر هو الذي كان يتحدث معي وليس هو, أو كأنني ليست التي كان يتكلم معها, فالزرع الذي زرعته, وحافظت عليه ورعيته حصدته غيري دون تعب أو مشقة. إنني لست نادمة علي ما قدمته لأولاده من مساعدات, ولكني أشعر بالحسرة علي مشاعري الضائعة, فلقد أعددت نفسي علي أنني سوف أحيا ما تبقي لي من عمر مع هذه الأسرة, فإذا به يفعل ما فعله, بل إنه لم يكتف بذلك ويضغط علي حاليا في عملي, ويطلبني للحضور إلي مكتبه كثيرا باعتبار أنه رئيسي في العمل, وعندما قلت له إنني لن أذهب إليه, وأن أي عمل يمكن أن يرسله لي مع ساعي المكتب, رفض قائلا: إن مصلحة العمل تتطلب أن نكون وجها لوجه وليس عن طريق المراسلة! إنني أموت يوميا عندما أراه, ولك أن تتخيل العذاب الذي يحيط بي من كل جانب, وعندما طلبت نقلي إلي مكان آخر, أراد تعجيزي, فأصر علي وجود البديل.. فلماذا يفعل بي ذلك؟. إنني الآن وحيدة بعد زواج الرجل الذي أحببته, وسفر معظم أفراد العائلة للخارج, ورحيل الباقين إلي أماكن أخري غير المنطقة التي نقطن بها, ولك أن تتصور حالي وأنا بمفردي في العمارة! ولعل ما أنا فيه يكون درسا لكاتبة رسالة الموقف العصيب بأن تحمد الله كثيرا, وتعلم أن المرأة ليس لها إلا أولادها وزوجها, حتي ولو أن معاملته لها سيئة, فخلاصة تجربتي تقول: إن الرجل هو حصن الأمان ولا تشعر بذلك إلا من حرمت منه, فكوني لزوجك أمة يكن لك عبدا. وأخيرا أقول لك يا سيدي إنني ارتحت لمجرد أن كتبت هذه الرسالة إليك, وأشعر بأن هموم الدنيا قد انزاحت عن كاهلي المثقل بالهموم.. ولك التحية والسلام. {{.. وأقول لكاتبة هذه الرسالة: لقد صبرت كثيرا, ولن يضيع الله صبرك سدي, فبقدر شدة البلاء والصبر عليه يكون الجزاء والثواب, واحتسبي عطاءك لمن لم يقدره عنده عز وجل, ولتعلمي أن تحمل الأوجاع يؤدي دائما الي الأفراح, وفي ذلك يقول جبران خليل جبران زرعت أوجاعي في حقل من التجلد فنبتت أفراحا. وأرجو ألا تدعي ينتابك ويسيطر عليك, فيؤدي بك الي الاكتئاب والضياع, وثقي بأن اغراءات الدنيا مهما عظمت فهي مؤقتة وزائلة.. أما الآخرة فهي خير وأبقي, وتأملي معي قوله تعالي: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه, ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها, وما له في الآخرة من نصيب. فلا تلقي بالا لهذا الشخص الذي لم تتكشفي حقيقته لقلة خبرتك بالحياة, اذ لم يكن هناك مبرر علي الإطلاق للانتظار خمس سنوات بدعوي أن أحد أبنائه في الصف الثالث الثانوي ويحتاج الي المتابعة وخلافه, فالمؤكد أن وجودك بجانبه كان الأفضل له خصوصا وأنه يعلم أنك ارتبطت بأولاده, وأن زواجه منك سوف يزيدك قربا منهم فتتعرفين علي مشكلاتهم, وتأخذين بأيديهم الي بر الأمان, وتكونين لهم أما ثانية بعد أمهم رحمها الله. وكل ما ذكرتيه في رسالتك يدل علي صدق سريرتك ونقاء معدنك, لكنه كان يبيت النية للغدر بك, ومثله لا يأمن له جانب, ولو أنه أتم زواجه منك, فإنما أراها زيجة مرشحة للانهيار في أي لحظة.. والحقيقة أن أمثاله كثيرون ممن لا يعنيهم سوي مصالحهم, وملذاتهم, ولذلك عندما صادفته من هي أصغر منك وجدها غنيمة وسارع بالتهامها, وسوف يلفظها بعد أن يمتص رحيقها. فاحمدي الله أنك نفدت بجلدك منه, ولا تدعي له فرصة للحديث معك, وحاولي الانتقال الي إدارة أخري بعيدا عنه, ومادام الجميع يعرفون قصتكما فما الضرر في أن تعرضي الأمر علي المسئول عن الشركة أو المصنع الذي تعملين به, وأعتقد أنه سوف يتفهم ظروفك ودوافعك للابتعاد عن مكان عمله, دون أن يرجع إليه.. فهذا هو الأفضل.. أما أن تظلي في مكانك الحالي فإنني لا أحبذ ذلك إذ سوف يتواصل ضغطه عليك, وربما عرض عليك الزواج من جديد بعد تنازلات أكبر من جانبك, ويزين لك هذا الأمر ثم سرعان ما ينقلب عليك, فمثله لا يستقيم حاله, وفي ذلك يقول الفيلسوف الهندي بيدبا لا تلتمس تقويم ما لا يستقيم, فإن الحجر الصلب الذي لا ينقطع لا تجرب عليه السيوف, والعود الذي لا ينحني لا تعمل منه القوس. ولا سبيل الي الخلاص من هذه التجربة المريرة إلا بطي صفحة الماضي وبدء صفحة جديدة, فعليك الاستعانة بالله, وسوف ييسر لك أمرك ويرشدك الي طريق الصواب, فليهدأ بالك لكي تواصلي حياتك بنفس صافية راضية بحكم الله وقدره.