سلك الراحل خالد محيى الدين طريقا ثالثا لم يكن معدا له، فقد كان أمامه بحكم التنشئة طريقان، أحدهما أن يصبح شيخ الطريقة النقشبندية، التى عرضوها عليه بعد وفاة جده لأمه عثمان خالد شيخ الطريقة،والطريق الثانى أن يدرس الزراعة ليدير أملاك والده الواسعة من أراض وتجارة قطن، لكن الأقدار دفعت به إلى طريق ثالث رأى فيه خدمة الوطن عبر مجال أكثر رحابة. يصف خالد محيى الدين فى كتابه «الآن أتكلم» أجواء تكية السادة النقشبندية قائلا: يقرأون كثيرا ويتعبدون فى أناة ،وبلا تشدد، وبقية النهار يعبدون الله بخدمة الناس فكان عثمان أفندى (جده) الهادئ الأبيض الشعر يقضى وقته يعلم سكان الحى القراءة والكتابة، وآخرون يقدمون خدماتهم المجانية بلا انقطاع للناس، واحد يصلح لهم ساعات مجانا، وآخر يصلح مختلف الآلات، وثالث يخيط الثياب، والكل لا يتقاضى أجرا سوى الإحساس بالرضا الدينى بالتقرب إلى الله عبر خدمة عباده. فى رحاب هذا العبق الدينى قضى خالد محيى الدين أجمل أيام طفولته، وتشكلت شخصيته من بعد ثان تمثل فى والده، الذى كان مقيما فى كفر شكر (محافظة القليوبية) يشرف على زراعة الأرض ثلاثة أيام فى الأسبوع، ثم يأتى ليقيم مع الأسرة بقية الأسبوع، وعندما تنتهى أشهر الدراسة يذهب خالد إلى كفر شكر ليقيم بجوار التختبوش (المضيفة) والتى أتاحت له اندماجا شبه كامل مع أبناء الفلاحين، حيث كان يلعب معهم الكرة الشراب بحماس قادر على إزاحة الفوارق الطبقية بين أبناء الفلاحين وابن الثرى »أبا عن جد«. اندمج خالد محيى الدين فى السياسة عبر مراحل التعليم الأولى وفى عام 1938 حصل على شهادة الثقافة، وفى ذلك العام كانت النية تتجه لزيادة عدد قوات الجيش، استعدادا للحرب العالمية الثانية، فتم الإعلان عن قبول دفعة بالكلية الحربية من الحاصلين على الثقافة العامة، بحجة أنهم سوف يستكملون دراسة التوجيهية فى الكلية الحربية، وقد حدث ذلك مرة واحدة فى ظل حكومة الوفد من أجل شخص من أصهار الملك كان لديه ابن متعثر فى التوجيهية ويريد أن يلحقه بالكلية الحربية. ظل خالد محيى الدين يتساءل لماذا أقحم نفسه فى هذا الطريق، وقد كان متفوقا، وكان أبوه يغريه بالسفر لدراسة الزراعة الحديثة فى أمريكا بعد التوجيهية، ولكنها المشاعر الوطنية التى سيطرت عليه ضمن الشباب الذين شعروا بأن مصر بحاجة إلى جيش قوى يعمل من أجل الوطن. لقد كانت تنشئة خالد محيى الدين تقوده إلى أحد طريقين، لكنه اختار طريقا ثالثا، ولو كان الرفاق طبقوا أفكاره، ربما كان له ولمصر شأن آخر.