«بيت شرقى ساحر ، فسقية فى منتصف الحديقة الواسعة المليئة بالأشجار والورود والتمرحنة ، لم يكن بيتا عاديا، إنه تكية السادة النقشبندية هنا قبر الجد الأكبر لأمى الشيخ الخليفة «محمد عاشق هنا أيضا مسجده ودراويش الطريقة النقشبندية يشغلون الدور الأول من التكية وأنا ووالدتى وجدى الشيخ عثمان خالد شيخ الطريقة وناظر الوقف نشغل الدور الثانى باسم جدى لأمى سميت، وفى رحاب التكية عشت طفولتى ألهو فى حديقتها البديعة وأستمتع بعبق حياة دينية سمحة هادئة.. المسجد يعلو فيه الآذان كل يوم خمس مرات ودراويش التكية ونحن معهم نصلي.. أنا أذهب إلى المدرسة وجدى يشرف على شئون الدائرة فى الغرفة المسماة بالديوان والدراويش يحيون حياة تعبد تثير الاهتمام بل لعلها هى التى ألهمتنى وحتى الإحساس الآن هذا الإحساس الرفيع بالتدين السمح المتفانى فى حب البشر ، يقراون كثيرا ، ويتعبدون فى أناة وبلاتشدد وبقية النهار يعبدون الله بخدمة الناس. هكذا تحدث خالد محيى الدين عن نشأته الأولى كما رواها فى كتابه «والآن أتكلم» الذى نشره على صفحات «الأهرام». وينتقل إلى حضانة أخرى صاغت شخصيته وأفكاره فيقول فى نفس الكتاب «فى نوفمبر 1938 وبضعة أشهر فوق السادسة عشرة من عمرى وقفت فى أول طابور بالكلية الحربية الضبط والربط ينبعان هنا ليس من اضطرار الطالب لاتباع الأوامر والتعليمات ، فثمة شيء جديد ينمو فى أعماق الفتى القادم من تكية السادة النقشبندية فالمشاعر الدينية المتدفقة تستضيف إلى جوارها إحساسا مصريا عميقا بحب الوطن وبضرورة أن يكون له جيش وطنى بحق قادر على الدفاع عن سيادته بحق وأتقبل برضاء تام كل صعوبات الأيام الأولى فى الكلية ، تلك الصعوبات التى تستهدف وعن عمد تطويع القادمين من الحياة المدنية « الملكية» كما نسميها لتحويلهم إلى عسكريين مشبعين بروح الانضباط ». وعن مرحلة أخرى أو الانطلاقة الكبرى التى غيرت مسارات الحياة لديه يقول « فى بيت جمال عبدالناصر عقد الاجتماع الأول للخلية الأولى لتنظيم الضباط الأحرار جمال وعبدالمنعم عبدالرءوف وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم وأنا وبدأ جمال يتحدث وكيف أننا اصبح من المحتم علينا أن نفعل شيئا وأن ننظم أنفسنا وقال كل واحد منا يشتغل ويحاول تكوين مجموعة فى سلاحه وهكذا يمكن أن نصبح قوة منظمة وقادرة على فعل شيء كان هذا الاجتماع الأول فى النصف الثانى من 1949. يقول عنه كريم مروة فى مقال بالأهرام عنوانه «خالد محيى الدين». تجتمع فى شخص خالد محيى الدين ثلاثة رموز تعبّر باتحادها عن الملامح الأساسية لشخصية . هذا القائد الكبيرالقادم إلى العالم العربى من تاريخ مصر الحديث الحافل بالأحداث الكبيرة فى اتجاهاتها المختلفة يتمثل الرمز الأول فى أن خالد محيى الدين هو البقية النقية الباقية من ثورة يوليو التى كان مع صديقه ورفيق عمره جمال عبدالناصر من أوائل الذين أعدّوا لها وأسهموا بدور أساسى فى تفجيرها ، ويتمثل الرمز الثانى فى أن خالد كان منذ بدايات عمره واستمر كذلك حتى هذه اللحظة من حياته ديمقراطياً بكل المعاني، ديمقراطياً أصيلاً غير مهادن فى التمسك بقيم الديمقراطية مختلفاً فى ذلك حتى مع أقرب الناس إليه وأعزهم وأكثرهم صداقة ورفقة عمر أعنى الرئيس جمال عبدالناصر الذى سمى ابنه البكر على اسم صديقه خالد محيى الدين أما الرمز الثالث فيتمثل فى أن خالد كان فى آن معاً ومن دون ارتباك أو تردد أو خلل اشتراكياً بمرجعية ماركسية ومسلماً مؤمناً متمسكاً بقيم دينه متمايزاً عن كل ما أدخل إلى الدين من بدع تتعارض مع قيمه واجتماع هذه الرموز الثلاثة فى شخص خالد محيى الدين هو الذى حوله إلى ما يشبه الأسطورة. جرة العسل سماه عبد الناصر «جرة العسل» معللا ذلك بأن الذباب لا يهبط إلا على العسل وخالد هو العسل الذى يقترب منه ذباب كثير، يقصد المنتفعين من التفوا حوله ، اما السادات فأطلق عليه «الصاغ الأحمر» لأفكاره اليسارية.