ككل إنسان .. عندما أخلو إلى نفسي، أجدها في أحيان كثيرة، تعود بي إلى أعماق الذاكرة، لتفترش مساحة حلوة من أجمل ذكريات الطفولة. بيت شرقي ساحر، فسقية في منتصف الحديقة الواسعة المليئة بالأشجار والورود والتمر حنة، لم يكن بيتا عاديا، إنه تكية السادة النقشبندية، هنا قبر الجد الأكبر لأمي الشيخ الخليفة «محمد عاشق»، هنا أيضا مسجده، ودراويش الطريقة النقشبندية يشغلون الدور الأول من التكية، وأنا ووالدتي وجدي الشيخ عثمان خالد، شيخ الطريقة وناظر الوقف، نشغل الدور الثاني. باسم جدي لأمي سميت، وفي رحاب التكية عشت طفولتي، ألهو في حديقتها البديعة، وأستمتع بعبق حياة دينية سمحة وهادئة، المسجد يعلو فيه الأذان – كل يوم – خمس مرات، ودراويش التكية ونحن معهم نصلي، أنا أذهب إلى المدرسة، وجدي يشرف على شئون الدائرة في الغرفة المسماة بالديوان، والدراويش يحيون حياة تعبد تثير الاهتمام، بل لعلها هي التي ألهمتني وحتى الآن هذا الإحساس الرفيع بالتدين السمح المتفاني في حب البشر. ذهني أفندي، أيوب أفندي، عثمان أفندي.. أسماء لا يمكنها أن تبتعد عن ذاكرتي، كذلك صورتهم في «جلاليب» بيضاء وطاقية، وحياة تستمع بثلاثة أشياء جميلة: تعبد، وقراءة، وخدمة الناس. يقرأون كثيرا، ويتعبدون في أناة وبلا تشدد، وبقية النهار يعبدون الله بخدمة الناس، فكان عثمان أفندي الهادئ الأبيض الشعر يقضي وقته يعلم سكان الحي القراءة والكتابة، وآخرون يقدمون خدماتهم المجانية بلا انقطاع للناس، واحد يصلح لهم ساعاتهم مجانا، وآخر يصلح مختلف الآلات، وثالث يخيط الثياب، والكل لا يتقاضى أجرا، سوى الإحساس بالرضاء الديني بالتقرب إلى الله عبر خدمة عباده. باب التكية مفتوح لا يغلق إلا في المساء، وهل يليق بدراويش الطريقة النقشبندية أن يغلقوا بابهم في وجه إنسان؟ وفي رحاب هذا العبق الديني الرائع قضيت أجمل أيام طفولتي. ابي كان مقيما في كفر شكر يشرف على زراعة الأرض لثلاثة أيام في الأسبوع تقريبا، ثم يأتي ليقيم معنا، وعندما تنتهي أشهر الدراسة أنطلق إلى كفر شكر لأقيم بجوار «التختبوش» - [كلمة تعني المضيفة] - في بيت العائلة، هنا تبدو الحياة مختلفة، فالجد محيي الدين تاجر ومزارع شاطر، تاجر في القطن على زمان الحرب الأهلية الأمريكية وكسب كثيرا، وفي كفر شكر اشترى مئات الأفدنة، ولما عادت أسعار القطن إلى الانخفاض تحول إلى زراعة الفاكهة، ويرتبط اسم محي الدين بكفر شكر، فهو الذي أدخل فيها زراعة العنب والمانجو والبرتقال. وبرغم تميز الأسرة ببعض الثراء فإن «التختبوش» الذي كان في قلب كفر شكر قد أتاح لي خلال أشهر الصيف اندماجا شبه كامل مع أبناء الفلاحين، كنا نلعب الكرة الشراب معا بحماس قادر على إزاحة أية فوارق طبقية. .. وينتهي الصيف لأعود سريعا إلى دراويش التكية، لأنعم معهم بحالة من السلام النفسي يصعب تكرارها، كانوا متدينين في هدوء، وبلا تعصب، والإسلام عندهم محبة للناس وتفان في خدمتهم بلا مقابل، وتناول للحياة في تعفف بلا شره، وبلا ترفع. كل سكان التكية كانوا يُصلّون معا في الجامع، فإن تغيب أحد استحى الدراويش من دعوته للصلاة، فقط كانوا يسألون عن صحته.. «ولعل المانع خير» فيسرع الغائب إلى المسجد مع أول أذان. حتى الأذان كان هادئا.. وديعا، وكأنه دعوة حانية إلى لقاء حميم. هذه العلاقة الحانية مع الدين ظلت تتملكني حتى الآن، ولم يزل طيف عثمان أفندي يمنحني الكثير من السكينة عندما أتذكره وهو يعطي للناس كل وقته كي يعلمهم القراءة والكتابة، ويبدو طوال وقته معهم سعيدا وممتنا لأنهم يقدمون له صنيعا إذ يتيحون له الفرصة كي يتقرب أكثر إلى صحيح الدين. وكثيرا ما يحلق في خيالي: ماذا لو كنت قد واصلت رحلتي مع الطريقة النقشبندية؟ فعندما توفى جدي عثمان خالد، وكنت أيامها ضابطا بالجيش، عرضوا علىّ مشيخة الطريقة من بعده، لكن عبق الدراويش كان قد اجتذبني نحو التعبد في طريق أكثر رحابة، خدمة الوطن والشعب ككل. واعتذرت عن تولي المشيخة وتولاها ابن خالتي. وفي التكية حيث الهدوء والسكنة النفسية لم يكن ثمة مجال للاقتراب من السياسة، حتى تفجرت مظاهرات 1931، كنت في التاسعة عندما شاهدت صخب المتظاهرين وتصادمهم مع البوليس، والتقطت أذناي المندهشة هتافاتهم الصاخبة، لكن هذا الصخب لم يهز هدوء التكية ولو بأقل قدر. حتى كان يوم تصاعد فيه الصخب داخل التكية ذاتها، أبي الذي يأتي لعدة أيام كل أسبوع، كان ساخطا على مظاهرات المعادين لصدقي، أما خالي العائد لتوه من فرنسا حيث حصل على ماجستير في الاقتصاد فكان معاديا لصدقي منددا بدكتاتوريته متشددا في المطالبة بالدستور. وبدأت أتابع نقاشا صاخبا مرتفع الصوت بين مزارع ثري يشعر بالامتنان لصدقي الذي أنقذ المزارعين من ديون تراكمت بحيث استحال سدادها، وقرر تسوية عادلة ومريحة لهذه الديون، فأنقذ بذلك أراضيهم المرتهنة من الضياع، وبين شاب متحمس يتمسك بالدستور ويعتبر انتهاكه معصية لا يغفرها اي إصلاح. لم أكن أعي أكثر النقاش، لكنها كانت اللمسات السياسية الأولى التي ظلت متبقية في ذاكرتي، ولعلها أثارت لدىّ هواجس وأسئلة غامضة، لم تجد إجابة لها إلا بعد سنوات عديدة. لكن أبي امتنع عن الحديث في السياسة بعد ذهاب صدقي، وظل خالي يتحدث دون مقاطعة أو معارضة عن الدستور والديمقراطية، وأنا أستمع في انبهار، ولعل كلماته وحججه وإلحاحه على ضرورة الديمقراطية قد تركت في تكويني آثارا بقيت حتى الآن. ومن المدرسة الابتدائية إلى الابراهيمية الثانوية لعامين، وبعدها أصر والدي على أن نترك التكية، إلى بيت جديد في شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليا) قرب شارع أحمد سعيد، وكان طبيعيا أن أنتقل إلى مدرسة جديدة، وهي مدرسة فؤاد الأول.. وكانت واحدة من أكثر المدارس إسهاما في التحركات الطلابية والمظاهرات، واندمجت بالطبع – وربما رغم أنفي – في المناخ السياسي المتفجر عام 1935. والغريب أنني فيما بعد علمت أن أنور السادات كان معي في ذات المدرسة، لكنني لم أتعرف عليه، فقد كان يسبقني بعدة سنوات، كذلك كان زكريا محيي الدين معي في المدرسة، لكنه كان في السنة الخامسة أو التوجيهية. وفي مدرسة فؤاد الأول بدأت في الانغماس في المناخ السياسي العام، وشاركت في العديد من المظاهرات، ويأتي عام 1936 مصحوبا بالصخب والجدل حول معاهدة 1936، وأندمج أنا أكثر فأكثر في المناخ السياسي والمناقشات السياسية مع الطلبة، وتسيطر المشاعر الوطنية على الفتى القادم من تكية النقشبندية لتمتزج في تأخ وانسجام تام مع المشاعر الدينية المتدفقة في اعتدال، والممتزجة بمحبة الناس كجزء لا ينفصم عن محبة الله. ومن مدرسة فؤاد الأول إلى فاروق الأول بالعباسية، وكانت المشاعر الوطنية تتراكم بصورة واضحة. كنا جميعا كذلك، مصر كلها كانت في حالة عصبية، فالمعاهدة وقعت، والانجليز ما زالوا موجودين، وهتلر وموسوليني يطرحان أفكارهما التي تجد رواجا لدى البعض، وفي أحيان كثيرة يختلط العداء للانجليز والاحتلال بالإعجاب بهتلر الذي يملأ قلب الانجليز رعبا. ويبدأ إعجابي بأحمد حسين ومصر الفتاة، كلماتهم الساخنة في مجلة «الصرخة» كانت تحرك مشاعري بالعداء للاحتلال وبمحبة الوطن. ثم خطوت أول خطوة باتجاه السياسة في حياتي. كان معي في المدرسة طالب اسمه «النشار» وكان قريبا لأحمد حسين، ولا يكف مطلقا عن مهاجمته، كتبت رسالة لأحمد حسين لأبلغه فيها بهذا الهجوم، وأرسل لي ردا يشكرني فيه، لكنه توجه إلى أسرة زميلي، وتسببت رسالتي في مشكلة عائلية. وفي عام 1938 أحصل على شهادة الثقافة (الصف الرابع الثانوي)، وفي هذا العام تحديدا – كانت النية تتجه من فترة إلى توسيع الجيش المصري وزيادة عدده، ورفع مستواه التسليحي والتدريبي استعدادا لاحتمالات نشوب الحرب العالمية الثانية – أعلن عن قبول دفعة في الكلية الحربية من الحاصلين على الثقافة العامة بحجة أنهم سوف يستكملون دراسة التوجيهية في الكلية الحربية.. ويحصلون على توجيهية عسكرية تماثل شهادة إتمام الدراسة الثانوية، وفعلا درسنا في الكلية الحربية كيمياء وطبيعة وكل علوم التوجيهية وامتحنا فيها، وحصلت على التوجيهية العسكرية، ثم أكملت في الكلية الحربية. والحقيقة أن قصة قبول دفعة بالثقافة العامة – وهو الأمر الذي تكرر مرة واحدة بعد ذلك في عهد حكومة الوفد عام 1942 – كانت من أجل عيون «إبراهيم خيري»، وهو واحد من أصهار الملك، وكان لديه ابن متعثر في التوجيهية ويريد أن يلحقه بالكلية الحربية فكان له ما أراد، واغتنمت أنا الفرصة ودخلت الكلية الحربية. وحتى الآن، كثيرا ما أستعيد هذه الأيام، وأسأل نفسي لماذا أقحمت نفسي في هذا الطريق، فلم أكن طالبا متعثرا، وكان أبي يغريني ويلح علىّ بأن أحصل على التوجيهية ليرسلني إلى أمريكا لأدرس الزراعة الحديثة وأستمر حتى أحصل على الدكتوراه. لكنني كنت أندفع باتجاه آخر، كانت الروح الوطنية تلهب مشاعرنا نحن الشباب في هذه الفترة، وكنا نشعر أن مصر بحاجة إلى جيش حقيقي قادر على حمياتها، جيش وطني يعمل من أجل الوطن وليس من أجل قوى أخرى، وهكذا تعلقت بفكرة الانضمام إلى الكلية الحربية، وبعد معارضة شديدة من أبي وإصرار حاسم مني.. دخلت الكلية الحربية.
نوفمبر 1938.. وبضعة أشهر فوق السادة عشرة من عمري.. وقفت في أول طابور بالكلية الحربية، الضبط والربط ينبعان هنا ليس من اضطرار الطالب لاتباع الأوامر والتعليمات، فثمة شيء ينمو في أعماق الفتى القادم من تكية السادة النقشبندية، فالمشاعر الدينية تستضيف إلى جوارها إحساس مصريا عميقا بحب الوطن، وبضرورة أن يكون له جيش وطني بحق، قادر على الدفاع عن سيادته بحق. وأتقبل برضاء تام كل صعوبات الأيام الأولى في الكلية، تلك الصعوبات التي تستهدف وعن عمد تطويع القادمين من الحياة المدنية، «الملكية» كما كنا نسميها لتحويلهم إلى عسكريين مشبعين بروح الانضباط. أستعيد الآن أسماء عديدة تلاقيت معها بالكلية الحربية، مجدس حسنين ولطفي واحد وصلاح هدايت وكانوا دفعتي، ثروت عكاشة، حسن ابراهيم وكان «امباشي»، وكذلك صلاح سالم أيضا كان «امباشي»، وكمال الدين حسين كان «شاويش»، عبداللطيف بغدادي كان في نهائي، وكان هو وحسن ابراهيم في الطيران يحضران معنا الدراسة في الكلية ثم يذهبان ليتدربا على الطيران. وأستكمل الأسماء.. زكريا محي الدين كان مدرسا لي في نهائي، يوسف صديق وكان مدرسا أيضا، وكان أحمد عبدالعزيز يدرس لنا «تاريخ عسكري»، وكان وطنيا دافق الوطنية وأثر فينا تأثيرا كبيراً. ولابد أن نتوقف لبعض الوقت لنتساءل: كيف أتى هؤلاء جميعاً في هذه الفترة بالذات؟ ولماذا أسهموا جميعاً في حركة الضباط الأحرار فيما بعد؟ والإجابة سهلة.. ففي 1936 وبعد توقيع المعاهدة اتجهت النية لزيادة عدد الجيش ومن ثم زيادة عدد الضباط، ولعل الانجليز أدركوا احتمال الاحتياج إلى قوات مصرية في صدامهم المرتقب مع هتلر، فقرروا زيادة الجيش وزيادة تسليحه وتحويله إلى جيش حقيقي. وقبل 1936 كانت الكلية الحربية لا تقبل إلا عددا محدودا من الضباط، كلهم من أبناء الفئات العليا المصرية، وكانت الدراسة بها شكلية تُخرِّج ضباطا ليس مطلوبا منهم أية واجبات قتالية، أو عسكرية حقيقية. وفي الفترة من 1936 – 1938 تدفق إلى الكلية الحربية كثيرون من أبناء الطبقة الوسطى، وربما الفئات الدنيا منها (صغار موظفين – متوسط وصغار ملاك – تجار متوسطين... وهكذا) وأصبحت البرامج أكثر جدية، وسرعان ما ذخرت الكية أساتذة وطلابا بموجة وطنية عالية. كانت الحرب العالمية الثانية تطل على الجميع لتروعهم، وبدأنا في مناقشاتنا الليلية نتحدث عن مشكلة السوديت وهولندا، وهتلر والانجليز، ثم اشتعلت الحرب وبدأت خريطة العالم تعلن في ساحة الكلية وعليها أسهم بتحرك القوات، ولابد لذلك كله أن يخلق مجالا لتراكم النقاش والمشاعر والأفكار. وكنت اسهم في النقاش، وكانت المشاعر الوطنية تتدفق في رفق، لعله كان بعض ما تعلمته من اساتذتي الاول: دراويش النقشبندية. وفي المكتبة كنت أقرأ كثيرا حول المشكلات الاستراتيجية، وقضايا المنطقة وانعكاساتها العسكرية، وحرب الدبابات، واستهوتني المعارف العسكرية، ولعل من يطالع بطاقة الاستعارة من المكتبة الخاصة بالطالب خالد محيي الدين يتخيل أنه منغمس كليا في الشئون والمعارف العسكرية. لكن المناقشات الخافتة الصوت كانت تجري بيننا، والمستشارون العسكريون الانجليز بالكلية كانوا يحركون مشاعرنا المرهفة، وبوجودهم كنا نستشعر حالة هي أقرب إلى الهوان. وذات يوم همس طالب من دفعتي هو مجدي حسنين في أذني: «شايف اليافطة دي؟» كانت لافتة من الورق مثبتة على باب المستشار البريطاني مكتوب عليها بالانجليزية «المستشار العسكري البريطاني» تهامسنا طويلا، وبدأت مشاعرنا تتقد ضد لافتة من الورق مكتوب عليها بالانجليزية، وفي سرية تامة أعددنا لافتة أخرى مكتوبة باللغة العربية، وفي المساء تسللنا معا لننزع اللافتة الانجليزية ونثبت مكانها اللافتة العربية. عدت إلى سريري ولم أستطع النوم إلا قليلا، شيء ما يغلي في داخلي ضد الوجود الانجليزي في الكلية، بعض الخوف يتسلل إلىّ: ماذا لو اكتشفونا؟ وظللت طوال الليل أخمن.. ماذا سيحدث في طابور الصباح؟ وفي الصباح لم يحدث شيء. كأن شيئا لم يحدث، فقد شاءت إدارة الكلية ألا تضخم هذا العمل، وألا تجعل من هذه المشاغبة حديثا مسموحا به بين طلاب الكلية. ومر الحادث بسلام.
عامان إلا قليلا في الكلية الحربية.. من نوفمبر 1938 حتى سبتمبر 1940. في السنة الأولى حصلت على التوجيهية العسكرية التي مكنتني فيما بعد من الالتحاق بكلية التجارة، وفي الثانية أكملت دراستي العسكرية. وتخرجت برتبة الملازم ثان وأنا في الثامنة عشرة من عمري لأعمال في الآلالي الأول دبابات "سلاح الفرسان"