لم يكن اليهود الأرثوذكس، أى المتشددين، يمثلون مشكلة حقيقية للعرب عندما بدأ الصراع العربى الإسرائيلى، فما كانوا يطرحونه من تصورات دينية معادية للحركة الصهيونية، كقومية علمانية، مثل تعضيدا للموقف العربى الرافض لهذه الحركة. غير أنها سوف تشهد عبر الزمن، قبل إنشاء الدولة الإسرائيلية بقليل وبعدها، انشقاقا مهما بين تيارين: أولهما الحريدى/ الأرثوذكسي الذى مثل استمرارا لليهودية التقليدية ولكن على نحو أكثر تشددا ومحافظة، إذ يرفض الحداثة، ويطرح تحفظاته على التيار العلماني داخل إسرائيل. وثانيهما الصهيونية اليهودية التى تمثل خليطا يتداخل فيه وعى تقليدى مشبع بأساطير الاختيار والنقاء العرقى وقداسة الشعب اليهودى، مع وعى قومى ينشد التوسع والاستيطان، ويسند إلى الدولة الإسرائيلية دورا مسيانيا / خلاصيا، معتبرا أن قيامها بمثابة آلية تسريع لعودة المسيح واستدعاء للتدخل الإلهى فى التاريخ، كما أن توسعها فى الأرض التوراتية الموعودة علامة على التقدم نحو الخلاص، فتأسيس الدولة ليس هدفاً فى ذاته بقدر ما أنه وسيلة لتحرير الأرض وتسهيل العودة الروحية لكل اليهود إلى أرض الميعاد. تشكل تيار الصهيونية الدينية، أساسا، من يهود متدينين، لكنهم اختاروا البقاء فى صفوف الحركة الصهيونية؛ باعتبار أن ذلك أحد متطلبات المعركة ضد الاتجاهات العلمانية داخل الصهيونية نفسها. لم يرفض هؤلاء ضرورة بناء مجتمع يهودى، ما جعلهم ينضمون إلى الصهاينة العلمانيين فى تشجيع الهجرة واستيطان الأرض وبناء المؤسسات، بل إنهم أسسوا الجناح الدينى القومى داخل المنظمة الصهيونية العالمية. وفى حين انفصل المتدينون المتزمتون عن المجتمع اليهودى العلمانى فى فلسطين، ظل الصهاينة المتدينون يشتركون مع الصهاينة العلمانيين فى عديد المؤسسات، ومن ثم اعترفوا بالدولة لدى قيامها، وأسبغوا عليها معنى دينيا من خلال صلوات خاصة، ولا يزالون يشاركون فى الخدمة العسكرية والعمل فى الأجهزة الحكومية. ولعل التمثيل الأبرز للصهيونية الدينية يتمثل فى جماعة «جوش إمونيم» أو كتلة المؤمنين التى أسسها الحاخام كوك الأكبر لا من أجل التنافس علي مقاعد الكنيست، بل بهدف تحقيق اليقظة العظمي للشعب اليهودي والخلاص الكامل لإسرائيل والعالم أجمع. وعلي حين أزاح الصهاينة الأوائل من القوميين والعلمانيين واليساريين الدين جانباً، أصر أعضاء الجوش علي تجذير حركتهم في الديانة اليهودية. تؤمن جوش إمونيم بأن فكرة شعب الله المختار تلغى سائر القوانين التى تتحكم فى العلاقات السائدة بين سائر الشعوب، لأن الوصايا الإلهية للشعب اليهودى تسمو على كل الأفكار الإنسانية. وحينما يطلب الله من سائر الأمم الخضوع للقوانين الأخرى المجردة الخاصة بالعدل والفضيلة، فإن هذه القوانين لا تنطبق على اليهود لأن الله يتكلم مع شعبه مباشرة. هكذا تقدم الصهيونية الدينية تفسيراً متطرفاً وعنيفاً لليهودية، تجعل منها توجهاً استبعادياً، ثقافياً وسياسياً، متطرفاً وعنصرياً، بل يمكن الادعاء بأنها تمثل نوعا من قومية رومانسية تقوم على الاختزالية كسمة كل النزعات الأصولية، إذ تهدف إلى استعادة العصر المتوهم للمجد اليهودى، وإلى إعادة بناء الهيكل الثالث على أنقاض الحرم القدسى الشريف، بل ويجهزون كوادرهم كى تعمل كحاخامات هناك عندما يحين الوقت، رغم أنهم لا يزالون يختلفون حول سبل تحقيق ذلك الهدف، فبعضهم يرى ضرورة هدم المسجدين القائمين على جبل القدس، بينما يأمل آخرون فى تدخل إلهى يفتح الطريق أمام مشاريعهم. وقد أسهمت الأزمات السياسية والعسكرية التي واجهت إسرائيل منذ السبعينيات، علي منوال حرب أكتوبر مثلا والانتكاسة التي حدثت في جنوبلبنان؛ فى تغذية نزعة إحياء ديني غالبا ما تصاحب رغبة نفسية تنزع إلي قراءة هذه الأزمات في ضوء الكتاب المقدس وأساطير الوعد والاختيار بقصد التثبت بها والتيقن من وجود مستقبل للدولة الإسرائيلية، حيث ركز أتباع الحاخامين كوك وشاس، من منطلق الانتقائية الأصولية، علي الأجزاء الأكثر عدوانية فيه، تلك التي أمر فيها الرب بني إسرائيل بطرد السكان الأصليين لأرض الميعاد، وعدم عقد معاهدات معهم، وتدمير رموزهم المقدسة. واقترح أتباع كوك أن يُسمح للعرب بالبقاء في أرض إسرائيل «فقط» كمقيمين أجانب يعاملون معاملة حسنة ما احترموا دولة إسرائيل إلا أنه لا يمكنهم أن يصبحوا مواطنين أو يحصلوا على حقوق سياسية. وقد تدعَّم هذا التطرف الأصولي بحركة الهجرة المستمرة إلى داخل إسرائيل، وخاصة موجة المليون مهاجر روسى عقب الانهيار السوفيتى، والتى تميزت بكثافتها وعمق تأثيرها. فمن المعروف أن المهاجر الجديد إلى أى مجتمع، خصوصا إذا كان مجتمعا استيطانيا، ودولة عنصرية تقوم على الأسطورة السحرية أو الرؤية الدينية للعالم كإسرائيل، إنما ينزع إلى التشدد فى تبنى تلك الأساطير والمزايدة على المستوطنين الأقدم منه، تأكيدا لولائه لمجتمعه الجديد، وربما كسبا للمنافع التى قد يولدها ذلك الانتماء المتطرف، فضلا عن كونه يمثل محاولة لإشباع الهوية الذاتية، التى تعانى من اختلال نتيجة انتقاله من مجتمعه الأقدم «الاتحاد السوفيتى» بكل ذكرياته وشجونه وطرائقه فى العيش، إلى مجتمع جديد له طرائقه المختلفة التى تحتاج على نوع من التكيف معها، ومن ثم إلى الإمعان فى تبنى أساطير ومعتقدات، تعمل كغضاريف ومفاصل قادرة على الربط والدمج بين الذات الفردية للمهاجر والوطن الجديد. أضف إلى ذلك أن انهيار البنية الأيديولوجية الشيوعية نفسها، والتى كانت قد قمعت مكونات الهوية الدينية والقومية لدى الشعوب السوفيتية سابقا، قد ولدت الحاجة لدى الجميع إلى عملية إحياء دينى وقومى، سواء كانوا مسيحيين أرثوذكس فى المجتمع الأم، أو يهودا فى المجتمع الإسرائيلي، حيث تتميز لحظات الانتقال بنوع من الحدة فى التعبير عن الهوية التقليدية، والرغبة العارمة فى إشباعها. وقد أدت ضخامة هذه الموجة نفسها والتى بلغت نسبة عالية من المجتمع الإسرائيلي (نحو 20% ) ربما يمتد تأثيرها إلى المتعاملين معهم والمحيطين بهم، والساعين من السياسيين فى الأحزاب الإسرائيلية إلى كسب ودهم وضمان تأييدهم فى الانتخابات، إلى تعديل فى المزاج العام للشخصية الإسرائيلية، خصوصا فيما يتعلق بالتعاطى مع العرب، حيث تم استعادة عقد التفوق والخيرية للعمل بكفاءة منقطعة النظير. [email protected] لمزيد من مقالات ◀ صلاح سالم