تعكس الأصولية اليهودية عقدتين وجوديتين تتجليان على صعيدى السلطة السياسية والهوية الدينية. على صعيد السلطة، ورغم عدم وجود تجربة مؤكدة يمكن من خلالها استشفاف العلاقة بين الدين والسياسة، يشى التاريخ اليهودي، كما يسجله التراث العبرى أساسا، بتكوين مملكتين سياسيتين بداية الألف الأول قبل الميلاد، أو ممارسة نوع من الحكم الذاتى فى عصر المكابيين (القوميين اليهود) فى القرن الثانى قبل الميلاد، وذلك قبل أن ينتهى وجودهم التاريخى المستقل بتحطيم الهيكل الثانى على يدى القائد الرومانى تيتوس عام70م، وبداية حقبة الشتات التى استمرت نحو ألفى عام، من دون دولة مستقلة. وهنا ينقسم الفكر اليهودى بين تيار ينادى باستعادة هذه الدولة، عبر التجمع والعودة إلى الأرض المقدسة، حيث يتحقق الوعد الإلهي، ما أفضى إلى الحركة الصهيونية التى أسست لإسرائيل قبل ستة عقود. وتيار آخر يرى أن تلك العودة يجب أن تكون روحية، إلى الله وليس إلى الأرض، مؤكدا أن اليهود عندما كانوا يعيشون فى ظل دولة مستقلة كانوا يجدون صعوبات كبرى فى حفظ عقيدتهم نقية، حتى إن انهيارا أخلاقيا ودينيا وقع أثناء حكم يشوع الذى خلف موسي، كما تكرر بعد ذلك فى أثناء حكم النبي/ الملك سليمان، وفى ظل حكام المملكتين الشمالية والجنوبية الأقوياء، الذين تميزت أيامهم بالسلام والرخاء الاقتصادى، ففى كل مرة كان اليهود ينحرفون إلى عبادة آلهة الكنعانيين الوثنيين. وفى المقابل بدا اليهود أكثر تديناً وقربا لله وهم تحت الحكم الأجنبي، فكانوا يطيعون الشريعة ويخافون الله بصورة واضحة، حتى استخلص النبى إرميا، أحد أنبياء اليهود الكبار فى القرن السادس قبل الميلاد، أن وجود دولة يهودية مستقلة من عمل إبليس وليس من عمل الله. هذا الفهم الإنسانى هو نفسه ما عبر عنه النبى حزقيال، زمن النفي، عندما بشر اليهود بأن الله سيعيدهم إليه ليس إلى الأرض ويجعلهم من جديد شعباً له: «وأعطيهم قلباً واحداً وأجعل فى داخلهم روحاً جديداً وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم لكى يسلكوا فى فرائضى ويحفظوا أحكامى ويعملوا بها ويكونوا لى شعباً فأكون لهم إلها»ً (حزقيال، 11: 19، 20). وهكذا تصير أرض الميعاد الحقيقية، كما ستصبح فى مفهوم المسيح بعد ذلك، هى الأرض بكاملها، إذ يتحقق فيها وعد الله بأن تتبارك بذرية إبراهيم، فتتحول جميع قبائل الأرض وشعوبها إلى شعب واحد لله يؤول تنوع عناصره لا إلى صراع واقتتال بل إلى تناغم وتكامل. أما على صعيد الهوية فثمة الشعور القاتل بالخيرية قياسا إلى الأغيار، تأسس على مفهوم قبلى للألوهية، يعتبر (إلوهيم/ يهوه) إلها خاصا بالعبرانيين ثم أسباط إسرائيل الاثنى عشر؛ فالعرق هو محدد الانتماء لليهودية؛ وهو أمر ينطوى على تجاهل فج للتعددية العرقية واللونية، التى يكفى لإثباتها يهود الفلاشا الزنوج، على سبيل المثال لا الحصر. يتأسس هذا الشعور على ما ورد فى سفر التثنية من آيات تدعو إلى إبادة الأغيار المفتقرين لأى فضيلة، وما جاء فى سفر الخروج من آيات تحضهم على التعامل الأخلاقى الانتقائي، بتوخى العدل والإحسان تجاه اليهود الآخرين، والتغاضى عنهما مع الأغيار، على منوال التحريض على سرقة المصريين. وفى المقابل يجرى تجاهل ما ورد فى الإصحاح الثامن من سفر التثنية نفسه، من أن الله لم يختر العبرانيين إلى الأبد، بل اختارهم كما اختار الكنعانيين من قبلهم، عندما كانوا أحبارا يخدمون الله بوازع ديني، ولكنه تخلى عنهم بسبب حبهم للشهوات، وفساد عبادتهم؛ ولذا فقد حذرهم موسى «وإن نسيت الرب إلهك وذهبت وراء آلهة أخرى وعبدتها وسجدت لها، أشهد عليكم اليوم أنكم تبيدون لا محالة. كالشعوب الذين يبيدهم الرب من أمامكم كذلك تبيدون، لأجل أنكم لم تسمعوا لقول الرب إلهكم» (تثنيه، 8: 19- 20). كما يجرى تجاهل الدعوة إلى الإحسان وفعل الخير مع الجميع والتى وردت مثلا فى سفر المزامير، إذ يقول كاتبها إن «الرب قريب من جميع دعاته الذين يدعونه بالحق» (مز، 144: 18). وأن «الرب صالح للجميع ومراحمه على كل صنائعه» (مز، 32: 15) أفضى ذلك الشعور بالخيرية إلى تعريض اليهود لأنواع شتى من الاضطهاد، دفعتهم إلى العزلة فى مجتمع الجيتو منذ مطلع القرن السادس عشر وحتى مطلع التاسع عشر، عندما ولدت حركة تنوير يهودى (الهاسكالا)، فى سياق التنوير الأوروبي، حاولت أن تعيد الاعتبار إلى الفهم الإنسانى للكتاب المقدس، الذى كان قد هُمش ولم يتبلور أبدا كتيار رئيسى فى الفكر اليهودي. كان مفترضا، فى سياق الهاسكالا، أن تحدث مصالحة بين اليهود والتاريخ على قاعدة التسوية النفسية بين عقدة الاختيار الموروثة عن الفهم العنصرى للكتاب المقدس وعقدة الاضطهاد المتولدة من تجربة الشتات، وهو ما كان يسير إليه الحال عبر تشكيل نموذج اليهودى العلماني، المندرج فى تيار الوعى الإنساني، خصوصا فى الحركات اليسارية والتقدمية. غير أن المفارقة، التى يمكن اعتبارها نوعا من دهاء التاريخ، تمثلت فى ميلاد الحركة الصهيونية، كحركة قومية عنصرية، أجهضت الهاسكالا لحساب الدولة الاستيطانية. اليوم، تلعب الأصولية اليهودية فى إسرائيل دورا إشكاليا، ينطوى من ناحية على فهم معاند للصهيونية؛ كما هو الأمر لدى الحريديم (اليهود الأرثوذكس)، المنعزلين فى شبه جيتو داخل الدولة العلمانية. ومن ناحية أخرى على دعم وتشجيع لتلك الدولة القائمة، من قبل اليهود الصهاينة، الذين يزايدون على إسرائيل كدولة علمانية، ويمدون عنفها (القومى) بمقولات تبريرية تنبع من أساطير توراتية تسند إليها دورا خلاصيا، يعتقد فى أن قيامها يمثل استدعاء للتدخل الإلهى فى حركة التاريخ، وأن توسعها فى الأرض التوراتية الموعودة بمثابة علامة على التقدم نحو الخلاص. وهكذا تمنح الصهيونية الدينية، ممثلة بالذات فى الحزب القومى الدينى (المفدال) الذى يعود تأسيسه إلى ثلاثينيات القرن العشرين، وكتلة المؤمنين «جوش إمونيم» التى تعود إلى سبعينيات القرن نفسه، دعما فائقا للصهيونية العلمانية؛ يزيد من تطرفها بوتيرة متسارعة لم تستطع مناوأته حركة «المؤرخين الجدد» التى أسست لتيار «ما بعد الصهيونية» كامتداد نحيف للهاسكالا، رغم سعيها إلى صوغ هوية منفتحة للوجود اليهودي، وتبنى حل إنسانى للصراع العربى الإسرائيلى. [email protected] لمزيد من مقالات ◀ صلاح سالم