هيمنت النزعة القبلية على اليهودية لتجعل منها دينا مغلقا على الأسباط الإثنى عشر، يرفض أتباعه التبشير به، على نحو أوقعها فى أسر العنصرية، فلم تمتلك رسالة عالمية كالمسيحية تاليا، والإسلام أخيرا، ولم تتحول إلى نمط حضارى جذاب طيلة تاريخها الممتد لأكثر من ثلاثة آلاف عام، ف «الدين اليهودى» لايناظره ما يمكن تسميته ب «الحضارة اليهودية» رغم تكوين مملكتين سياسيتين لفترة قصيرة من العمر فى بداية الألف الأول قبل الميلاد، أو ممارسة نوع من الحكم الذاتى فى عصر المكابيين (القوميين اليهود) فى القرن الثانى قبل الميلاد، وذلك قبل أن ينتهى وجودهم التاريخى المستقل بتحطم هيكلهم الثانى على يدى القائد الرومانى تيتوس عام 70 م. ويشى التاريخ بأن اليهود عندما يعيشون فى ظل دولة مستقلة، يجدون صعوبات كبرى فى حفظ عقيدتهم نقية وطاهرة، فثمة انهيار أخلاقى ودينى وقع أثناء حكم يشوع، ثم الملك سليمان، ثم فى المملكتين الشمالية والجنوبية، خاصة تحت حكم الملوك الأقوياء التى تميزت حقبهم بالسلام والرخاء الاقتصادى، ففى كل مرة كانوا ينحرفون إلى عبادة آلهة الشعوب المجاورة. وفى المقابل بدا اليهود أكثر تديناً وقربا لله وهم تحت حكم أجنبى، وهو ما لاحظه إرميا، أحد أنبياء اليهودية الكبار الذى وصل فى تأمله لتاريخ شعبه إلى نتيجة ملخصها أن ضعف الأمة اليهودية وعدم استقلالها يقترن دائماً بقربها إلى الله، وقربه منها، وأن وجود دولة يهودية مستقلة من عمل إبليس وليس الله. عندما بعث المسيح نبيا للرحمة لا القتال، رافضا وضعية الملك اليهودى المقدس، فاتحا شريعة موسى للأغيار، مانحا الخيرية لكل المؤمنين، المنتمين لإبراهيم بالروح لا الجسد، وبالعقيدة لا العرق، كان ذلك إيذانا باستقلال المسيحية كدين له كنيسته وطقوسه، ومنذ ذاك توقف إسهام اليهود فى الحضارة الإنسانية كجماعة دينية أو ثقافية، وإن ظل حاضرا وفعالا من قبل اليهودى كفرد يعيش داخل الثقافات الأخرى. كان إسهام اليهود أكثر وضوحا فى المجتمعات الإسلامية التى بلغ تسامحها حدا لم تعرف معه مفهومى «المسألة اليهودية» أو «معاداة السامية»، لأنها ببساطة مجتمعات سامية لغة وعرقاً. وفى المقابل خضعت علاقتهم بالمسيحيين فى السياق الحضارى الغربى لاضطراب دائم دفع بهم نحو العزلة، حتى أصبح «الجيتو» عالماً مستقلاً لهم، وإن لم يمنعهم ذلك من التأثر بحركة الإصلاح البروتستانتى، التى حفزتهم إلى تجاوز الأصولية المحافظة نحو التجديد، حيث غابت فكرة انتظار المخلص «المسيا» وتبلور فهم إنسانى لليهودية يجعل فكرة الاختيار تضم جميع المؤمنين بالله، وهو الفهم الذى كان النبى حزقيال قد عبر عنه باكرا، زمن النفى، بالقول إن الله سيعيدهم إليه ويجعلهم من جديد شعباً له اوأعطيهم قلباً واحداً وأجعل فى داخلهم روحاً جديداً وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم لكى يسلكوا فى فرائضى ويحفظوا أحكامى ويعملوا بها ويكونوا لى شعباً فأكون لهم إلها«ً (حزقيال، 11: 19، 20). وهكذا تصير أرض الميعاد الحقيقية لدى أصحاب هذه الحركة، كما كانت فى مفهوم المسيح، هى الأرض بكاملها، والتى يدعوها الله لأن تتحول إلى ملكوته، فتصير البشرية عائلة واحدة على اختلاف الأمم والألسنة، قبل أن تبرز حركة تنوير يهودية «الهاسكالاة» على يدى موسى مندلسون فى ألمانيا، تغذت على فلسفة التنوير الأوروبية، ودعت إلى التخلص من طغيان الماضى الانعزالي، والاندماج فى النزعات الإنسانية والليبرالية داخل جتمعاتهم.غير أن القرن التاسع عشر سرعان ما انتهى بمحاولة جديدة لاستعادة حضورهم الجماعى كجنس، والسياسى كدولة عبر الحركة (الصهيونية) التى أجهضت النزعة التنويرية، وأنشأت الدولة الإسرائيلية الاستيطانية استلهاما لفهم عنصرى موروث يدعى بأن عداء الأغيار وتربصهم باليهودى صفات أزلية تدفعهم إلى الفتك والتنكيل به مع أول فرصة. وبالتالى يصبح الحل هو تخلى اليهودى عن موقفه المسالم والمبادرة بالعنف كنوع من الوقاية، وأن ينفصل عن المجتمعات غير اليهودية ليتجمع مع سائر اليهود فى إطار خاص يحميهم. وحسب الوعد التوراتي، تصير فلسطين المكان الطبيعى لتجمع اليهود، ويصبح غزوها، عبر التوظيف النفعى للغرب المسيحى، هو غاية التاريخ اليهودي. وهكذا نجد الحركة الصهيونية تسلك فى ضدية الحركة التنويرية، وبدلا من السعى إلى تفتيت التناقض اليهودى مع الأغيار داخل المجتمعات الحاضنة لهم، فقد عمدت إلى تدعيم الاستثنائية اليهودية بصنع الجيتو الأكبر فى التاريخ (إسرائيل). والمفارقة هنا أنها فرضت منطقها على العلاقة بين العالمين الغربى، والعربى، ففى موازاة عملية إعادة وصل اليهودية بالمسيحية (البروتستانتية) كجذر ثانى للحضارة الغربية، ثمة فى المقابل عملية هدم للجسور القائمة بين تلك الحضارة الغربية اليهو مسيحية، وبين نظيرتها العربية الإسلامية، حيث صارت إسرائيل نقطة الإرتطام الكبرى بينهما. وحتى عندما ولد تيار «ما بعد الصهيونية» مطلع الثمانينيات تأسيسا على حركة االمؤرخين الجددب محاولا تقديم حل إنسانى للصراع المرير مع العرب، فإنه سرعان ما هزم أمام النزعة اليمينية المحافظة، التى أنتجت ظاهرة «الحريديم»، أى اليهود الأرثوذكس، ودفعت باتجاه صهيونية دينية أكثر شراسة من نظيرتها العلمانية، أعادت اليهود أدراجهم، أسرى لعقدهم النفسية التى تحرمهم من كل حضور جمعى فعال، حتى تكاد القاعدة القديمة تتأكد: كلما عاش اليهودى كفرد، كان إضافة للحضارة، وكلما نحا إلى استعادة وجوده الجمعى كان رمزا للعدوانية، التى لا تعدو إسرائيل أن تكون تجسيدا كاملا لها،إذ تتبدى كمولود تاريخى لقيط، أنانى وسادى، تدفعه أنانيته إلى القمع، وتزيد ساديته من توقه إلى مشاهدة روايته التاريخية يجسدها آخرون، تجرى أمام عينيه فى دراما إنسانية أكثر مأساوية، يزيد من تعقيدها ويعيد إنتاجها باستمرار هاجس الأمن وعقدة الخوف التى غالباً ما تصاحب كل كائن لقيط لا يجد لنفسه صكوك نسب إلى الزمن حيث تصبح القوة، مع المبالغة فى إظهارها، هى الوثيقة الرئيسية، وصك النسب الوحيد، الأمر الذى يحيل هذا الكائن إلى ملاكم فى حلبة واسعة يلاكم من فوقها الجميع، حتى فى أوقات الراحة وبعد نهاية كل جولة، ولو بدا انتصاره واضحا فى كل جولة سابقة، خوفاً من الهزيمة/ العدم لأنه لا يثق فى خصمه ولا فى الحكم/ التاريخ، ولا حتى فى قواعد اللعب التى تجعله محدوداً بزمن لابد وأن ينقضي، وهكذا تتجدد مشاعر النكبة العربية، بفعل عقدة الشخصية اليهودية. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم