بفعل عنصريتها وتقوقعها على ذاتها لم تتحول اليهودية قط إلى نمط حضارى جذاب طيلة تاريخها الممتد إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، ف«الدين اليهودى» لا تناظره «حضارة يهودية». بل ويشى التاريخ بأن اليهود عندما كانوا يعيشون فى ظل دولة مستقلة كانوا يجدون صعوبات غير عادية فى حفظ عقيدتهم نقية وطاهرة، والدليل على ذلك أن ثمة انهيارا أخلاقيا ودينيا قد وقع فى أثناء حكم يشوع الذى خلف موسى، ثم ظهر ثانية فى أثناء حكم الملك سليمان، وظهر بعد ذلك عدة مرات فى المملكة الشمالية أو الجنوبية، خصوصا تحت حكم الملوك الأغنياء والأقوياء، التى تميزت حقبهم بالسلام والرخاء الاقتصادى، وفى كل مرة كان الشعب ينحرف إلى عبادة آلهة الشعوب المجاورة سواء كانوا من الكنعانيين أو الفلسطينيين. وفى المقابل بدا شعب اليهود أكثر تدينا وقربا لله وهو تحت حكم أجنبى، فقد كانوا يطيعون الناموس ويخافون الله بصورة واضحة وقوية، وكان أبرز من عبر عن هذا الفكر هو أرميا، أحد أنبياء اليهودية الكبار، الذى وصل فى تأمله لتاريخ شعبه إلى نتيجة ملخصها أن ضعف الأمة اليهودية وعدم استقلالها يقترن دائما بقربها إلى الله، وقربه منها، وأن وجود دولة يهودية مستقلة إنما هو من عمل إبليس، وليس من الله، لأنهم دائما ينحرفون عن عبادة الله. ومع استقلال المسيحية كدين له مؤسسته وكنيسته وطقوسه، وليس مجرد فرقة يهودية، توقف إسهام اليهود فى الحضارة الإنسانية كجماعة جنسية أو دينية، وإن ظل هذا الإسهام حاضرا وفعالا بشكل فردى ومن خلال جهد اليهودى باعتباره إنسانا قد يكون مبدعا وخلاقا كغيره من أبناء الديانات والثقافات الأخرى التى طالما عاش اليهود بين أهلها جل فترات التاريخ، خصوصا فى ظل الحضارتين: الغربية المسيحية، والعربية الإسلامية. وبينما ظهر الإسهام الحضارى لليهود سريعا فى السياق الإسلامى، نظرا للتسامح التقليدى، الذى ساد فى المجتمعات الإسلامية التى لم تعرف قط ما يسمى ب«المسألة اليهودية»، ولم يبرز فيها مفهوم «معاداة السامية»، فإن أوضاع اليهود فى أوروبا لم تتحسن جذريا اللهم مع الثورة الفرنسية، ونضج فلسفة التنوير، حيث تبدت المصالحة النهائية ممكنة بين اليهود والمسيحيين على قاعدة الأفكار الحديثة، وعلى أساس تسوية نفسية بين عقدة الاختيار القديمة جدا والموروثة من التاريخ اليهودى البعيد، وبين عقدة الاضطهاد المستجدة والموروثة من التاريخ القريب، أى من تجربة الشتات ومجتمع الجيتو، وهو ما كان الحال يسير إليه فى القرن التاسع عشر تقريبا، عندما برزت حركة تنوير يهودى «الهاسكالاة»، قدمت نقدا جذريا للمجتمع الكلاسيكى، ودعت اليهود إلى التخلص من طغيان الماضى الانعزالى عبر الاندماج فى النزعات الإنسانية والليبرالية داخل مجتمعاتهم. غير أن القرن التاسع عشر الذى شهدت بدايته اقتراب اليهود من تلك التسوية الإنسانية، سرعان ما انتهى بمحاولة جديدة لاستعادة حضورهم الجماعى كجنس، والسياسى كدولة من خلال العقيدة (الصهيونية) التى أجهضت الحركة التنويرية، وتمكنت من إنشاء دولة استيطانية عنصرية على قاعدة أن سوء النية والعداء والتربص باليهودى صفات أزلية أصيلة فى غير اليهود تدفعهم إلى الفتك باليهودى والتنكيل به مع أول فرصة تتاح لذلك. وبالتالى يصبح الحل هو أن يتخلى اليهودى عن موقفه المسالم، وأن يتسلح بالعنف، ويبادر به كنوع من الوقاية التى تقطع الطريق على الآخرين محاولة السبق إلى اغتياله.. إنها محنة العقل الإسرائيلى اليوم فى حربه على غزة وما كان قبلها، وما سيكون بعدها.