لم نعثر على معلومات مدققة عن تعليم الست لبنى أحمد والكلية التى تخرجت فيها، ربما نفهم من أين أتت بمعارفها وعلمها، فبين يوم وليلة صارت أشهر مذيعة على كوكب الأرض، تنقل وكالات الأنباء قدراتها الخارقة التى تتجاوز قدرات أبطال الأساطير اليونانية وإمكانات العفاريت والجن فى الحكايات الشعبية، فالمذيعة المعجزة تمكنت من إزاحة إعصار إرما المخيف وتغيير مساره حتى لا يعتصر مدينة فلوريداالأمريكية ويرفعها من خريطة الوجود، إنقاذا لصديقة لها تعيش هناك. والست لبنى ومعها «مستر» أحمد شعبان ،كما قالت فى برنامجها المذاع على قناة فضائية خاصة نصف مجهولة، تمكنا وهما على بعد ما يزيد على عشرة آلاف كيلو متر، أن يخفضا طاقة الإعصار «ونحدفه» تجاه خليج المكسيك!.. ويالطبع صارت حديث كوكب الأرض وربما الكواكب المجاورة..فالعالم يسأل عن طبيعة هذين الكائنين اللذين لهما قدرة التحكم فى الإعصار .. قطعا هذا العقل كان هو طبق السخرية الشهى على كل الموائد، فهو عقل غوغائى غيبى يتصور أننا نعيش فى عصر الظلمات والخرافات، ولا يدرك ما يجرى حوله ولا يحاول.. ولا مانع أن تتصور المذيعة لبنى أحمد ما تشاء وتعتقد فيما تشاء ، لكن أن تخرج على الملأ ويسمح لها بدخول البيوت دون استئذان وتفرض هذه التصورات الغبية على مجتمع مأزوم عقليا وثقافيا، فهذا نوع من إطلاق حرية تداول الهيروين والكوكايين ومنقوع البراطيش بين الناس مجانا، كما لو أن التخلف الذى نعانيه، ولم ننجح لأكثر من مائتى عام فى كسر دائرة حصاره لنا ليس كافيا، ونعمل على شحن المزيد منه لنوغل أكثر فى صحراء التيه. والست لبنى ليست حالة فريدة، لا هى ولا مذيعات الجن والعفاريت والنهنهة على الشاشة ولا مذيعو الصراخ والهتاف ولا مقدمو برامج التحريض على التشاحن والسباب، هى ظاهرة خطيرة يمكن أن نسميها «إعلام المصطبة» تضرب المصريين يوميا كما ضرب إعصار إيرما السواحل الجنوبية لأمريكا أياما معدودات، الفارق أن خسائر إعلام المصطبة أشد وأفدح من خسائر الإعصار، لأن الخسائر المادية محدودة ويمكن تعويضها فى عامين أو ثلاثة، لكن خسائر العقل زاحفة كغزو الجراد، لا تعالح إلا فى عشرات السنين. ولا يترك إعلام المصطبة للمصريين حيزا حرا دون أن يفسده، من أول الرياضة إلى التوك شو.. ولا يختلف مذيعو إعلام المصطبة عن الدعاة الشعبيين فى الزوايا والمساجد المقامة فى العشوائيات وجزء كبير من الريف المصري..نفس الخطاب، نفس العقلية، نفس الحركات، الاختلاف فقط فى أن السياسة وفتاويها حلت محل الدين وفتاويه!.. ونعترف بأن هؤلاء المذيعين لهم شعبية وجماهير ووكالات إعلانية صانعة لهم، بالضبط مثلهم مثل الشيوخ والدعاة، خاصة الذين يبحثون عن جماهيرية واسعة، وكان أولهم الشيخ عبدالحميد كشك، وكان يحلو له فى أحاديثه بعد صلاة الجمعة أن ينتقد الشخصيات العامة نقدا لاذعا غير معتاد فى تلك الأيام، كأن يقول على أم كلثوم: « الست فى أرذل العمر واقتربت من القبر، وبدلا من أن تذكر الله وحسابه تغنى وتقول (خدنى فى حنانك خدني، خَدَّك الموت يا شيخة)، والنَّاس تتمايل من فرط الإعجاب، وتشترى شرائط خطبه، ولا تتوقف أيضا عن سماع الست. ولم تكن مصادفة أن تلمع شخصية «اللمبي» التى لعبها النجم محمد سعد على شاشة السينما مع لمعان أول نجم فى إعلام المصطبة، والذى نقل أسلوب الشيخ كشك من الجامع إلى الشاشة، ونجاح اللمبى جماهيريا، على عكس ما يتصور كثير من النقاد الفنيين وغيرهم، لا يرجع إلى جمهور أغلبه من الصنايعية والحرفيين وربات البيوت، ممن لم يحظوا إلا بتعليم محدود أو لم يتعملوا أصلا ، بل كان جمهوره من شباب الطبقات الوسطى والعليا والمتعلمين الذى درس بعضهم فى المدارس الأجنبية، ولا يدخلون إلا سينمات المولات الفاخرة التى أخذت مكانها فى مناطق كثيرة. وكان آباء وأمهات هؤلاء الشباب هم جمهور أول نجم فى إعلام المصطبة، ووقتها سألت بعضا من رجال الأعمال الذين يتابعون هذا النجم بشغف يوميا: كيف تنصاع لمذيع فيه هذا القدر الكبير من الغوغائية؟.. فرد ببساطة مدهشة: هو اللنبى فى السياسة، نحن طول النهار منهكون فى شغل وأرقام وتليفونات ووجع دماغ وإجهاد ذهني، ولا نطيق بعدها أى حاجة جادة، كلامه ساخر ومضحك، أقسم لك هو يضحكنى أكثر من سعد! وفعلا كان هذا النجم الإعلامى ذكيا وخفيف الظل وعلى قدر معقول من الثقافة والفهم والوعي، وفتح ملفات شائكة كثيرة، لكن نصف ساعة الأول من برنامجه كان عبارة عن «ثرثرة شعبية» سواء عن قضية عامة أو موضوع شخصى خاص به، ثرثرة على الكيف «تنزلق» فيها الكلمات عفو الخاطر، ومحملة أحيانا أو دائما بألفاظ «حراقة»، وتشبيهات أقرب إلى إفيهات الممثلين الارتجالية فى المسرح الكوميدى تثير الخيال والفرفشة. وكان أحيانا يتطرق إلى موضوعات حساسة وشديدة الخصوصية بين الرجل والمرأة، حتى لو ناقشها علميا، ولم تكن شاشات التليفزيون معتادة على الاقتراب من هذه المناطق المثيرة، وبالطبع حاز شعبية واسعة. وتوسعت هذه الحالة الغوغائية بين جنبات المجتمع تدريجيا، وتوحشت فى عالمى الفن والإعلام، وكلما زادت غوغائية أى «عمل» رقصا وتمثيلا وغناء وخطابا، انتشر وعلت شعبيته إلى عنان السماء، ( لاحظوا برامج العفاريت والجن والجنس)، ولدينا مذيعة فى فضائية هى الأكثر إعلانات والأكثر جهلا وغوغائية فى التعامل مع القضايا الاجتماعية. ولم يكتف إعلام المصطبة باللعب على أوتار الجمهور الملتهبة ومشاعره المثيرة، وإعلاء ردود الفعل الانطباعية وإهمال العقل والتفكير العلمى المنظم، وإنما صنع لمصر أزمات «دولية» كما حدث مع الجزائر وإثيوبيا والمغرب، ولم تكن المذيعتان اللتان تطاولتا على سفير إثيوبيا واشقائنا فى المغرب إلا ترسيخا لهذا النوع من الإعلام الذى يخلط بين النقد والردح. وليس غريبا يخرج اغلب مقدمى برامج المصطبة من تحت عباءة المؤسس، فساروا على نهجه، وقلدوه بشكل كبير، خاصة أن برامج التوك شوك، نزلت من جمهور الصفوة إلى جمهور الترسو، فبات التقليد فجًّا للغاية ومازال!... ولن تكون السيدة لبنى آخر العنقود!. لمزيد من مقالات نبيل عمر