فى حوار عن الإعلام فى مصر، سألنى محدِّثى بجدية: ألا تجد تشابهًا مذهلًا بين الدعاة الشعبيين وكثرة من مذيعى الفضائيات؟! سألته مستغربًا: كيف؟! قال: نَفْس الخطاب، نفس العقلية، نفس الحركات، الاختلاف فقط فى أن السياسة وفتاواها حلَّتا محل الدين وفتاويه! تأمَّلت الفكرة ورُحت أقلِّب فيها يمينًا وشمالًا، ذهابًا وإيابًا، وصرخت فيه: أنت عبقرى، هذا ليس تشابهًا، وإنما هو تماثل كامل ، ورحنا نقارن بين أداء مذيعين فى فضائيات السياسة ودعاة سابقين وحاليين فى فضائيات دينية، الفارق الوحيد أننا لم نجد للمذيعات الرغَّايات فى أمور الدنيا قرينات رغايات فى أمور الدين. فعلًا المسألة مدهشة، وإذا كنا نطالب بتغيير الخطاب الدينى، أليس من الأوجب أن نرمِّم الخطاب الإعلامى ليصبح شعلة منيرة إلى دولة حديثة ديمقراطية تستند إلى التفكير العلمى المنظم فى بحث كل شؤون حياتها اليومية؟! قطعًا نعترف بأن هؤلاء المذيعين لهم شعبية وجماهير ووكالات إعلانية صانعة لهم، بالضبط مثلهم مثل الشيوخ والدعاة. وعمومًا أسلوب الطرفَين فى الأداء والآراء يذكّرنى بقعدات المصطبة فى ريف مصر، وكنا زمان حين يعود واحد من أبناء القرية المتعلمين من القاهرة محمَّلًا بأخبار المحروسة وما يجرى فيها من عجائب وأحداث وحكايات، يلتف حوله القرويون على المصطبة، ويظل صاحبنا نازلًا فيهم كلامًا ما أنزل الله به من سلطان، بعضه صحيح وأغلبه انطباعات شخصية حسب ثقافته وأفكاره، والناس تصفّق سعيدة بما تسمعه، خصوصًا إذا كانت تسمع ما يوافق هواها ويرطّب على قلبها، ويجنح بخيالها إلى مناطق ساخنة مثيرة للنميمة. وهذا ما كان يفعله شيوخ القرى، أو بعض شيوخ المدينة الذين يبحثون عن جماهيرية، الشيخ كشك نموذجًا فى الحديث بعد صلاة الجمعة، وكان يحلو له مثلًا انتقاد أم كلثوم، قائلًا الست فى أرذل العمر واقتربت من القبر، وبدلًا من أن تذكر الله وحسابه تغنى وتقول (خدنى فى حنانك خدنى، خَدِك الموت يا شيخة) ، والناس تتمايل من فرط الإعجاب، وتشترى شرائط خطبه، ولا تتوقف أيضًا عن سماع الست. ثم توسَّعت الظاهرة بالفضائيات، ووجدنا المشايخ والدعاة راكبين على آذان الناس وعيونهم وعقولهم بالتحريم والإفتاء فى كل شىء، ورواية الخزعبلات والشعبيات عن الدين ورسوله، بما يريح القلوب المهتاجة والنفوس الملتاعة التى لا تقرأ أو التى تكسّل عن معرفة دينها بنفسها، وتركن إلى السمع أكثر من بذل الجهد. ومع انهيار التعليم فى مصر توسَّع الشيوخ فى الزوايا والمساجد الصغيرة البعيدة عن الأوقاف والأزهر، وصنعوا الحالة التى نحن عليها الآن من شيوع الأفكار التى لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، ويتعامل معها كثير من الناس على أنها حقائق دامغة لا تقبل الشك، ومَن يقترب منها بالتساؤل والتفكير يصنفونه خارجًا عن الملّة. وبالطبع كانت ثقافة معظم هؤلاء الشيوخ والدعاة محدودة للغاية، ومستمدة من كتب تراث بعضها لم يعد صالحًا، وقد سمعت بنفسى واقعة منسوبة إلى سيدنا جبريل من داعية شهير جدًّا مليونى الشعبية بروايتين مختلفتين، الفارق بينهما ثلاثة أسابيع. ولو دققنا النظر فى عدد من مُقدِّمى البرامج المشهورين، سنجدهم شيوخًا ودعاة كالذين تكلَّمنا عنهم، ثقافة محدودة ومعارف على قدر الحال، لكن فى السياسة! وللحديث بقية.