لا يختلف اثنان علي ان الدعوة السليمة تؤتي ثمارها الحقيقية داخل المجتمع وتحدث من الأثر الإيجابي ما يقي المجتمع من شرور الغلو والتطرف والفكر المتشدد، وهذا كله لا يمكن تحقيقه إلا من خلال سياق دعوي واضح ومسئول يعكف عليه علماء ودعاة من داخل المجتمع يخافون عليه ويتعايشون معه، لكن في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة للدعاة ، وتكاثر الفضائيات الدينية أصبح تحقيق مسار دعوي متسق داخل المجتمع المصري صعب التحقيق ، وكان لابد من التعرف علي حقيقة الوضع ، ومدي تاثير الفضائيات الدينية علي الدعوة في مصر، وإمكانية تصدي دعاة وعلماء الأوقاف والأزهر لهذه الموجة . في البداية كان هناك اعتراف من قبل علماء الأزهر الممارسين للعمل الدعوي عبر المسارين الفضائي وعلي المنابر بوجود تأثير حقيقي للفضائيات الدينية علي مستقبل الدعوة، خاصة مع عدم قدرة دعاة اليوم داخل المساجد علي مواجهة تلك الفضائيات في ظل ظروفهم المادية والعلمية، فمن جانبه يوضح الدكتور أحمد محمود كريمة أستاذ الفقه بجامعة الأزهر وأحد الممارسين للعمل الدعوي من خلال المساجد والدروس الدينية ان الفضائيات المنسوبة للدين تخدم أجندة غير إسلامية باستخدام الشعارات الدينية، وان تلك الفضائيات نجحت عن طريق التلاعب بعواطف العوام وايجاد كهنوت في الاسلام معصومين في التأثير علي مسار الدعوة الحقيقي في مصر . وشدد قائلا:" إن تلك الفضائيات أثرت بلا شك علي العمل الدعوي الصحيح بالمساجد ليس لوجود ضعف بين صفوف دعاة الازهر والأوقاف فحسب ، وإنما لوجود دعم مالي لشيوخ فضائيات يعيشون في قصور لا يتخيلها انسان مع مدخرات بالملايين، وبالتالي يصبح هؤلاء الشيوخ بوقا لفكر موجه، فيبثون سمومهم متلاعبين بعواطف العوام بالحديث عن السلف الصالح تارة، وعن السنة، والحاكمية لله وتطبيق شرع الله تارة أخري". ويضيف أن مقاصد الدعوة المبثوثة عبر الفضائيات المنسوبة للدين هدفها ليس خدمة الإسلام ولكن خدمة مذهب أو اتجاه علي حساب الدين ، حيث توجد قنوات تسعي لتصدير الفكر الشيعي ، كما توجد في المقابل للفكر الوهابي" السلفي قنوات فضائية كثيرة، وأخري للفكر الأحمدي والقادياني ، واخري للإخوان . ويحدد الدكتور كريمة ثلاثة اتجاهات للفضائيات الدينية المتواجدة علي الساحة أولها يحمل تيار الفكر الوهابي المتسم بالتشريك والتكفير والتفسيق لما يخالفهم من اهل القبلة المسلمين وكراهية الآخر وعدم مد اليد بالتعايش بتحريم التهاني والتعازي والتواصل مع الآخر والثاني أخواني حركي يسعي للوصول للسلطة، والثالث شيعي يحاول يتغلغل بالمجتمع وتسلل مؤخرا لمصر بعد حرب العراق . ويعتبر أن بلوغ هذه الفضائيات مبلغ التاثير علي الناس دعويا داخل مصر ينذر بخطر كبير حيث ان معظم هذه القنوات متفرغة للمغالاة والتشدد ، وهي البذرة الأولي للتطرف وعمليات العنف المسلح، حيث إن الواقع يقرر هذا فالعنف "الجهادي" ترجع أصوله لتعاليم سلفية ، لأنها تبث ثقافة تكفير الحاكم والمجتمع واستحلال الدماء وعدم قبول الآخر واحتكار الإسلام وتفريغ الإسلام الحقيقي من مضمونه والاشتغال بالمظاهر، مع اغفال القضايا الواقعية للمجتمع مثل معالجة الفساد والرشوة. يقارن الدكتور أحمد كريمة بين الانفاق السخي لتلك الفضائيات الدينية لإحداث التغلغل داخل المجتمع المصري، وبين قلة الإمكانيات للدعاة وعلماء الأزهر في مجال الدعوة ، حيث يؤكد أن الدعاة الراسخين الذين هم رأس هرم الدعوة لا يوجد دعم لهم لأداء رسالتهم الدعوية ، وكل امور الدعوة تقوم علي مجهودات ذاتية من قبل علماء الأزهر رغم انهم القادرون علي مواجهة القنوات الفضائية الدينية، لكن قلة الإمكانيات تعيقهم. ويستطرد قائلا :" أما علي المستوي الدعاة المعينين رسميا فإمام المسجد، أو واعظ الأزهر الشريف كل راتبه لا يتجاوز 300 جنيه، وهذا لايفي حتي بمتطلبات الطعام، والمعدة الخاوية لا تخدم دينا ولا تقدم فكرا، ومن المصارحة والمكاشفة يجب القول إن عددا كبيرا من أئمة الأوقاف والأزهر انضموا كارهين للفكر السلفي تحت وطاة تبعات الحياة القاسية فبينما تبني شققا لترفيه بعض الفئات بدعوي الاستثمار ينام اكابر الدعاة والوعاظ في غرف بالمساجد أشبه بغرف الإيواء". وعن الحل لمواجهة سيطرة الفضائيات الدينية علي مستقبل الدعوة في مصر يري الدكتور كريمة أن أموال الدعوة معطلة عن أداء دورها في مواجهة الفضائيات الدينية والدليل وقفة الدعاة امام مجلس الشعب للمطالبة بحقوقهم للعيش بكرامة لأن المعدة الخاوية لا تبني فكرا ، وعليه فالحل في أموال الدعوة الإسلامية الموقوفة لدي وزارة الأوقاف وتوجيهها نحو إنشاء قناة تقدم الإسلام الصحيح وليكن مسماها "الإسلام" شريطة أن تدار من قبل علماء، لا بواسطة الشللية والمحسوبية، حتي لا تترك الساحة كما هو واقع لفضائيات الفكر الوهابي والشيعي ، بالإضافة إلي ضمان حياة جيدة للداعية كي لا يجند بدافع الاحتياج في اي تيار. مقارنة غير متكافئة من جانبه يعتبر الشيخ فرحات المنجي أحد كبار علماء الأزهر العاملين بالمجال الدعوي المباشر وعبر الفضائيات أنه عند المقارنة بين دعاة المساجد والفضائيات الدينية لمعرفة الأكثر تاثيرا علي الناس فإن النتيجة لن تكون في صالح دعاة المساجد، معللا ذلك بان ما يقدمه الدعاة اليوم بعيد عن الدعوة الحقيقية وطريقتهم في السرد والقصص الخيالي معتمدين علي بعض الكتب التي ألفت منذ مئات العوام ولاتتفق والحاضر ، لذا لابد وأن يقوم الأزهر الشريف بعقد دورات متتالية للدعاة، وليست الدورات التي تعقد هذه الأيام والذي عفا عليها الزمن. ويشير إلي أن من أسباب تراجع تاثير الأئمة هو تقاعس الأزهر والأوقاف في امر الدعاة كثيرا وقاموا علي رد الفعل وفقط، ففي الوقت الذي تصدر الفضائيات إلينا الدعاة غير المحترفين، عجز الدعاة الحقيقيون عن مجاراتهم حيث إنهم يملكون الفضائيات ويقولون فيها ما يشاءون أما الداعية الحقيقي أكثر ما عنده أن يصعد المنبر ليقول الموعظة فقط. ويلفت الشيخ فرحات إلي انه لابد من وقفة صارمة لتغيير منهج الدعوة الموجود حاليا داخل المساجد ليصبح متفاعلا مع الناس ، وأنه علي الدعاة في المساجد إن ارادوا إعادة دورهم المؤثر أكثر من الفضائيات أن يجددوا من ثقافتهم وأن يتناولوا قضايا الناس التي هم بحاجة إليها . بينما تلفت الدكتورة سعاد صالح أحد المراقبين للعمل الدعوي واستاذ الفقه بجامعة الأزهر إلي وجود تأثير كبير للفضائيات الدينية لا سيما السلفية علي الدعوة حتي في صفوف الدعاة مستدلة بظهور حالات تكفير من علي المنبر كان منها تكفيرها علي أحد منابر المساجد. وتؤكد أن إعادة الدور الحقيقي للمسجد كفيل ببقاء الدعوة في مسارها الصحيح بعيدا عن تأثير الفضائيات وهو ما يتطلب إعادة تأهيل خريجي الدعوة ، و تحسين احوال الدعاة المادية، مع تنظيم ندوات للأئمة في مختلف المجالات تثقفهم في جميع الأمور، وتبعدهم عن الترهيب النمطي في الدعوة. رؤية إعلامية وحول وجهة النظر الإعلامية عن مدي تراجع دور الدعاة في مواجهة الفضائيات الدينية الدكتور شعبان شمس أستاذ الإعلام ، وعميد كلية الإعلام بجامعة 6 اكتوبر السابق يري أن الفضائيات حققت انتشارا واسعا في المجال الدعوي في الفترة الأخيرة وأثرت علي أداء الداعية في المسجد ، راجعا ذلك إلي أن كثيرًا من أئمة المساجد انشغلوا بسد احتياجاتهم عن التفرغ للدعوة. وأشار إلي أنه في العشر سنوات الماضية زادت البرامج الدينية بشكل أصبح لافتًا للنظر من حيث الكم ، ولكن المردود في النهاية علي المجتمع لم يكن إيجابيا حيث بدأت تظهر أشياء كان المسلم العادي لا تشغله مثل قضية اختلاف الفتاوي وأصبح مبلبلاً. ويؤكد أن التحدي الأكبر للمساجد في مصر ورسالتها الدعوية في بناء الفكر الإسلامي المستنير جزء كبير منه يتمثل في وظهور فضائيات دينية متخصصة جذبت الجمهور من خلال قوالب جذابة من حيث العرض والشكل الإخراجي، في مقابل داعية مسجد ضعيف ، وحذر قائلا :" إن ظهور فضائيات دينية أخذت صورة دكاكين للدعوة والدين وجذبت المشاهدين أمر مردوده زرع التطرف والفتنة داخل المجتمع". كما يري الدكتور شعبان أن تزايد تأثير الفضائيات الدينية علي الناس أكثر من المسجد سببه انسياق كثير من الدعاة معلوماتيا وراء بعض هذه الفضائيات، وهو ما يجعل التأثير مزدوجا ، حيث إن نظريات الاتصال تشير إلي ان الفضائيات الدينية من حيث الانتشار اقوي بينما من حيث الفاعلية يظل المسجد هي الأقوي . ويختتم قائلا:" إن إعادة الدور الكامل لأئمة المساجد في مقابل الفضائيات الدينية يتطلب من وزارة الأوقاف بذل جهد اكبر في تدريب الدعاة وتقويته أمام الناس، حيث إننا بحاجة للشيخ الحكيم في المساجد فلو تعلم إمام المسجد جيدا وتدرب جيدا وروعيت ظروفه المادية فلن تقدر علي مواجهته فضائية دينية او غيرها من الفضائيات الموجهة لبلبلة أفكار الناس الدينية". موقف الدعاة وكان لابد بعد هذا العرض المتخصص دينيا وإعلاميا التعرف علي رؤية نظر الدعاة داخل المساجد حول الفضائيات الدينية ومدي تأثيرها علي جمهورهم ، وهو ما يوضحه الشيخ أحمد تركي امام مسجد النور بالعباسية الذي يري أن الخطر الحقيقي الذي يواجه الدعاة في الفضائيات السلفية ، حيث إن كثيرا منها ينشر المذهبية، وهي موجهه لنشر مذهب أو اتجاه أو تيار أفكار معينة مستخدمة الخطاب الشعائري والرقائق للتأثير علي الناس ودس هذه الافكار في هذا الخطاب .وسبب آخر يراه تركي وراء تزايد تأثير تلك الفضائيات، وهو انها مدعومة ماليا دعما ليس له نظير وليس له مقابل لمنافسته في الخطاب الوسطي، مؤكدا ان نجاحها سبب ما يسمي بالتزاوج بين الثروة والدعوة، فوظف الدين لصالح المال بدلا من توظيف المال لصالح الدين. ومع اعتراف إمام مسجد النور عن وجود تأثير لتلك الفضائيات الدينية علي الدعاة ورسالتهم خاصة في مجال الفتاوي إلا أنه يشدد علي الداعية ما زال مؤثرا اكثر من الفضائيات، وأن ما يحدث من جذب لتلك الفضائيات هو تسكين لبعض الامور في أذهان الناس ، مشيرا إلي ان التاثير الحقيقي يظل في التواصل المباشر وخطبة الجمعة، حيث أن التليفزيون مهما كان شخصية اعتبارية، لكن الإمام في الغالب قدوة والجمهور يأتون إليه تطوعا لسماعه، بينما الفضائيات الدينية يشاهدها الشخص صدفة وقد يعجب بشيء منها لكنها في النهاية تبدل عالم الناس الواقعي. وعن خطوات الدعاة لمواجهة تأثير الفضائيات الدينية علي مسار الدعوة في مصر يقول الشيخ تركي إنه يتم الآن اتخاذ خطوات عملية لمواجهة الفضائيات السلفية ، كما ان هناك طفرة كبيرة تقوم بها الأوقاف في تجديد مستوي الدعاة، إلا انه يبقي علي الداعية أن يكون بين الناس دائما ويختلط مع جمهوره في جميع حالاته وينفتح علي الناس ويحاول فتح القلوب ، لأن في هذا قوة في التأثير علي الناس واصلاح المجتمع . كما يطالب بضرورة أن تتغير وجهة نظر بعض الدعاة لعملهم من كونه عملا إلي كونه رسالة، وفي الوقت نفسه يأخذ الداعية وضعه المادي والاجتماعي كي يسير في رسالته مكتفيا ماديا. الشيخ صلاح نصار رئيس اتحاد الأئمة يري كذلك أن الدعاة لهم رسالتهم التي إن تم اداؤها بشكل جيد فلا يؤثر فيها فضائيات اوغيرها مما تقدم من مشايخ جدد، وقال إن فكر الناس المعتدل لا يمكن أن يتأثر بالفضائيات بعيدا عن الداعية ، ومع ذلك يؤكد نصار ان هناك من دعاة الاوقاف يظهرون بالفضائيات لمواجهة موجة دعوة مشايخ الفضائيات وإن كانت نسبتهم ضيئلة جدا. وأكد أنه ينبغي من جانب الدعاة في المساجد ان ينبهوا الناس لخطورة اخذ الدين من فضائيات تقدم مشايخ غير معروفين الهوية، خاصة أن كثيرًا من الفضائيات يسعي بالفعل وراء شخصيات غير متخصصة او يتم توجيهها لغرض معين لتحقيق مناهج وأهداف محددة تتطلب شخصيات بعينها.