وقف ميشال بارنييه، كبير مفاوضى الاتحاد الأوروبى المكلف بإدارة ملف خروج بريطانيا من الإتحاد، لتبادل التحية والتقاط الصور مع نظيره البريطانى ديفيد ديفيز فى بداية الجولة الثالثة من المفاوضات فى بروكسل. وبعد بعض الصور والابتسامات أمام الكاميرا والصحفيين، تغيرت لهجة وملامح بارنييه وبات أكثر صرامة وهو يوجه لبريطانيا هذه الرسالة: نريد خططا تفصيلية حول قضايا الخروج من الاتحاد الأوروبي، ونأمل منكم فى مفاوضات أكثر جدية. لا مجال لإنكار الاستياء الأوروبى من الطريقة التى أدارت بها لندن حتى الآن ملف الخروج من الاتحاد الأوروبى. فقد تحركت بريطانيا ببطء شديد لتقديم أى خطط مفصلة حول أكثر القضايا أهمية فيما يتعلق بالطلاق من أوروبا. ومنذ صوت البريطانيون فى يونيو من العام الماضى على الخروج من أوروبا وحتى اليوم لم تقدم الحكومة البريطانية أى تصورات نهائية حول حقوق الأوروبيين الموجودين فى بريطانيا، أو فاتورة الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو شكل الحدود الجديدة بين جمهورية أيرلندا (جزء من الاتحاد الأوروبى) وأيرلندا الشمالية (أحد مكونات الإتحاد البريطانى الذى يتشكل من انجلترا وويلز واسكتلندا). هذا التراخى والتردد البريطانى لوضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بقضايا الطلاق، والذى يؤخر بدوره بحث شكل العلاقات المستقبلية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبى، سيصبح القضية الأولى أمام اجتماعات القادة الأوروبيين فى أكتوبر المقبل. ولم يخف قادة الاتحاد الأوروبى قلقهم من بطء وتيرة التقدم فى المفاوضات. ففى اجتماعات أكتوبر المقبل كان من المفترض أن يكون الطرفان قد توصلا بالفعل لملامح شبه نهائية حول قضايا الطلاق الثلاث الرئيسية. إلا أن هذا لم يحدث حتى الآن. ومن غير المرجح أن يشهد شهرا سبتمبر وأكتوبر اختراقا كبيراً. فخلال هذين الشهرين، ستكون الأعين موجهة نحو أهم انتخابات فى أوروبا وهى الانتخابات العامة الألمانية بسبب أهمية موقع القيادة الألمانية من قلب المشروع الأوروبى. كما ستتزايد الصورة تعقيداً فى بريطانيا. ففى أكتوبر سيعقد حزب المحافظين الحاكم فى بريطانيا مؤتمره السنوي، وسط مؤشرات على أن زعامة رئيسة الوزراء تيريزا ماى ستكون على المحك. فقد باتت ضعيفة جداً وشعبيتها تتآكل بمعدلات قياسية وربما يجد الحزب خلال الشهرين المقبلين أنه يحتاج إلى تغييرها بزعيم جديد أملاً فى استعادة صورته المتضعضعة. ويعقد الصورة فى بريطانيا أكثر، انهيار التوافق بين أكبر حزبين فى البلاد، المحافظون والعمال، حول البريكست. فبعدما خاض حزب العمال الانتخابات العامة المبكرة فى يونيو الماضى على أرضية الخروج من السوق الأوروبية الموحدة واتفاق التعريفة الجمركية، وهو نفس موقف حزب المحافظين، أعلن حزب العمال منذ أيام فى تحول دراماتيكى مفاجئ أنه يريد بقاء بريطانيا فى السوق الموحدة واتفاق التعريفة الجمركية لفترة انتقالية تستمر سنوات بهدف عدم الإضرار بالاقتصاد البريطانى وإلى أن يتم التوصل لإنفاق نهائى مع الاتحاد الأوروبى حول شكل العلاقات المستقبلية. هذا التحول الدراماتيكى إن دل على شىء، فإنما يدل على أن النخبة السياسية البريطانية فاقدة البوصلة بشكل مذهل فيما يتعلق بالبريكست. فأن تدعيم الشئ ونقيضه فى قضية بهذه الأهمية، يعنى شيئين: إما أن حزب العمال لم يدرس بشكل كاف منذ البداية أثار الخروج من السوق الأوروبية والإتحاد الجمركي. وإما أنه غير موافق لأسباب سياسية براجماتية. فاستطلاعات الرأى العام تشير إلى أن غالبية البريطانيين لا تريد «خروجاً خشناً» من الاتحاد الأوروبى يضر بالاقتصاد أو بمستويات المعيشة أو بالوظائف أو بمكانة لندن كمركز مالى فى أوروبا. وتميل الغالبية بالمقابل ل«خروج ناعم» يحقق لبريطانيا السيادة على حدودها وقوانينها، دون أن يدفعها هذا لانتحار اقتصادى. ولا يترك سجل زعيم حزب العمال جيرمى كوربن مساحات كبيرة لتأويل «برىء» لهذا التحول الجذرى من موقف الحزب من البريكست. ففى الأغلب التحول فى مواقفه «انتهازية سياسية» أكثر من أى شىء آخر. فخلال الأشهر الماضية وعندما كانت حكومة تيريزا ماى تقدم أمام البرلمان مشروعاتها للخروج من الاتحاد الأوروبي، حض كوربن نواب حزب العمال فى البرلمان على التصويت لصالح مشروعات ماى التى كانت تتضمن الخروج من التعريفة الجمركية والسوق الموحدة. وكانت حجة كوربن أن «هذا هو ما صوت من أجله البريطانيون». أما نواب حزبه الذين خالفوه آنذاك ورفضوا التصويت لصالح تلك الصورة الخشنة من البريكست، فقد تم طردهم من حكومة الظل أو هيئات حزب العمال البارزة لأنهم خالفوا أوامر كوربن. ويعقد التغيير الجذرى فى مواقف حزب العمال حيال البريكست وملامح المرحلة الانتقالية الأمور أمام حكومة تيريزا ماى على أكثر من صعيد. فتصويت نواب «حزب العمال» إلى جانب نواب «الأحرار الديمقراطيين» و«القومى الاسكتلندى» و»الخضر» إلى جانب عدد قليل من نواب «حزب المحافظين» الذين يريدون نسخة ناعمة من البريكست يعنى أن مشروعات تيريزا ماى للخروج الفورى من التعريفة الجمركية والسوق الموحدة مهددة بالسقوط فى أى تصويت أمام البرلمان. وإذا ما حدث هذا، فعلى الأغلب ستضطر ماى للاستقالة. وستتم الدعوة لانتخابات عامة مبكرة يتحرك جيرمى كوربن من الآن لضمان أن يكون هو المنتصر فيها. فمنذ الانتخابات المبكرة فى يونيو الماضى والتى حقق فيها حزب العمال نتائج أفضل من المتوقع، لم تتوقف جولات كوربن الانتخابية فى أرجاء بريطانيا. ووفقاً لآخر استطلاعات الرأى هناك أسباب وجيهة تدعو كوربن للتفاؤل بحظوظه الانتخابية. وتحوله الدرامى الأخير وتفضيله لبركسيت ناعم يعزز هذه الحظوظ. فالرافضون للقفز من على حافة الهاوية نحو المجهول، سيجدون فكرة بقاء بريطانيا خلال مرحلة انتقالية فى مؤسسات الإتحاد الأوروبى وعلى رأسها السوق الموحدة، مطمئنة ومرغوبة، وإن كانت تفاصيلها غامضة ومن بينها طول الفترة الانتقالية، والالتزامات البريطانية حيال الاتحاد الأوروبى ومن بينها دفع مساهمة لندن فى ميزانية الاتحاد الأوروبي. لكن أين تترك كل هذه التحولات المتسارعة والجذرية مفاوضى الاتحاد الأوروبى فى بروكسل؟. لا شك ستتركهم فى حالة من السخط والانزعاج. فالنخبة السياسية البريطانية مشغولة بالمشهد السياسى الداخلى ومصالحها الضيقة وليس هناك أى توافق وطنى حول ملامح البريكست. والتقدم فى المفاوضات بطىء جداً. ولم يخف بارنييه ضيقه هذا الأسبوع عندما قال بوضوح أمام ديفيد ديفيز: «بصراحة أنا قلق. الوقت يمر بسرعة .. يجب أن نبدأ التفاوض بجدية». وزاد: «نرحب بالأوراق التى قدمتها بريطانيا أخيرا، وقرأناها بشكل دقيق .. ولكن علينا ان نبدأ بالتفاوض جدياً. نريد أن تكون الأوراق البريطانية واضحة. كلما استعجلنا فى إزالة الغموض، كلما كنا فى وضع يؤهلنا لمناقشة العلاقة المستقبلية والفترة الانتقالية». ومع أن ديفيز رد على بارنييه قائلاً إن بريطانيا جاهزة للعمل الشاق، إلا أن الحقيقة أن الفجوة بين الطرفين ما زالت واسعة جدا. فمسئولو الاتحاد الأوروبى أكدوا هذا الأسبوع أن مواقف بريطانيا فيما يتعلق بوضع المواطنين الأوروبيين فى بريطانيا، وقضية الحدود بين إيرلنداالشمالية وجمهورية إيرلندا، وفاتورة الطلاق، ما زالت غامضة وأبعد ما تكون عن الوضوح. بل إن أبرز مسئولى المفوضية الأوروبية اتهموا بريطانيا ضمناً بالإبقاء على هذا الغموض عن عمد بأمل الربط بين تسوية الخروج من الاتحاد الأوروبى، وبين شكل العلاقات المستقبلية مع أوروبا، وهو ما يرفضه المسئولون فى بروكسل بشكل قاطع. وبحسب مقربين من بارنييه «لم تغير لندن موقفها من الربط بين قضايا الطلاق وشكل العلاقات المستقبلية. حكومة ماى تعتبر أن إصرار الإتحاد الأوروبى على الترتيب المنطقى بتسوية الطلاق أولاً، ثم بحث القضايا المستقبلية ثانياً له نتائج عكسية. لكننا نختلف معهم بنسبة مئة فى المئة». ووسط الخلافات الواضحة، هناك خياران لا ثالث لهما. إما توافقا وحلولا وسط وتنازلات من الطرفين. وإما رضوخ الطرف الأضعف لمطالب الطرف الأقوى. وفى هذه المعادلة، بريطانيا أضعف أمام 27 دولة تتحرك حتى الآن بكثير من التنسيق.