بعد عشرين شهراً من قرار البريطانيين مغادرة الاتحاد الأوروبي، بدأت بريطانيا والاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع وبعد طول انتظار أول جولة من المفاوضات الرسمية لبحث شروط ذلك الانفصال المكلف والمرهق. «ماراثون» المفاوضات سيكون طويلاً وشاقاً. وكأي ماراثون يحتاج إلى إعداد طويل مسبق، وقدرة على التحمل، وطول نفس واستعداد لكل السيناريوهات. ويبدو من مسار الأشهر الماضية أنه إذا كان هناك طرف جاهز ومستعد للماراثون الطويل، فهو الاتحاد الأوروبي. أما بريطانيا، فالعكس هو الصحيح. فكما يرى الكثيرون في أروقة الاتحاد الأوروبي في بروكسل وداخل بريطانيا نفسها، فإن المؤسسة البريطانية، ممثلة في الحكومة والأحزاب الرئيسية، ليست فقط غير مستعدة، بل هي في حالة جهل بالتحديات والمخاطر المرتبطة بالمفاوضات والمترتبة على فشلها. وهناك 3 صور يمكن أن تلخص مسار مفاوضات البريكست حتى الآن: الذراع الأوروبية حول العنق البريطانى لغة الجسد لا تكذب, فعندما التقت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر بعدما خلفت رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون على رأس الحزب والحكومة لبحث البريكست، لف يونكر ذراعه حول رقبتها بطريقة آلية. ومنذ ذلك الوقت والذراع الأوروبية ملفوفة حول العنق البريطاني. لا يستطيع أحد لوم أوروبا على الوقوف بصرامة أمام محاولات بريطانيا «أكل الكعكة والاحتفاظ بها». فتحدي البريكست بالنسبة للمشروع الأوروبي هو «تحد وجودي» لم تطلبه بروكسل، بل فرضته بريطانيا على الجميع. ومع أن ماي رددت كثيراً أنها تريد التفاوض من «موقع قوة»، لكن الحال أن بريطانيا تتفاوض من موقع ضعف بالغ. وهو ضعف مزدوج بسبب عاملين. أولاً، هشاشة حكومة الأقلية التي تقودها ماي والمعرضة للانهيار في أي لحظة. وثانياً، الخلافات العميقة السياسية والإيديولوجية داخل حكومتها حول البريكست. وبسبب تلك الهشاشة والخلافات، فشلت لندن حتى الآن في الخوض في أية تفاصيل ذات معنى. ولا عجب أن تعرب رئيسة لجنة الشؤون الدستورية في البرلمان الأوروبي دانوتا هوبنير عن ذهولها من عدم إدراك لندن لخطورة المفاوضات وما سيترتب عليها بقولها:«يتخيل لي أنهم لا يدركون تماماً ما هم مقدمون عليه. يقولون مثلاً: سنخرج من السوق الموحدة بكل أريحية بدون أن يدركوا ما الذي سيترتب على قرار هكذا». حرب أهلية داخل المحافظين على النقيض من التماسك الأوروبي، تعيش بريطانيا واحدة من أسوأ لحظاتها السياسية, وهناك «حرب أهلية» داخل الحكومة حول البريكست وقضايا أخرى على رأسها الاقتصاد, لكن الحرب لم تنشب فقط بسبب الخلافات في الرأي حول هذه القضايا الحساسة بل على أرضية من سيخلف ماي على رأس الحزب والحكومة؟ ومتي؟. فمنذ خسرت رئيسة الوزراء أغلبية حزب المحافظين في مجلس العموم باتت أيامها معدودة. والراغبون في الحلول مكانها كثر على رأسهم وزير خارجيتها بوريس جونسون ووزير شئون البريكست ديفيد ديفيز. لكن جونسون، الذي يشتكي من أن أحداً داخل الحزب لا يأخذه بجدية، وديفيز، الذي يريد «خروج خشن» من أوروبا، فوجئا بمنافس جديد لم يكن مطروحاً قبل أشهر قليلة وهو وزير الخزانة فيليب هاموند، الأكثر برجماتية واعتدالا فيما يتعلق بشروط الخروج من الإتحاد الأوروبي. ومنذ بدأت أصوات داخل الحزب تعتبر أن هاموند «خليفة محتمل» لتيريزا ماي، لم تتوقف حملة التسريبات ضده بقيادة جونسون وديفيز. ما دعا تيريزا ماي شخصياً وأعضاء آخرين بالحزب إلى التدخل بحزم ومطالبة جونسون وديفيز ودائرتهما المقربة التوقف عن حملة التشهير بهاموند، لدرجة أن أحدي اللجان القوية داخل حزب المحافظين حذرت من يرفض الالتزام بهذه التعليمات بخسارة حظوظه المستقبلية لخلافة ماي على زعامة الحزب. وتقول عضوة بارزة وقديمة في حزب المحافظين ل«الأهرام»:»ما يحدث الآن هو أسوأ سيناريو ممكن، ليس لحزب المحافظين فقط، بل لبريطانيا أيضاً. هناك لاعبون يتصرفون بانعدام مسئولية غير مسبوق واخشي أننا جميعا قد ندفع ثمناً باهظاً». بريطانيا غير مستعدة للمفاوضات وسط الاقتتال الداخلي حول من يمكن أن يخلف ماي، نسيت حكومة المحافظين أن هناك مفاوضات مصيرية بانتظار ذلك البلد. ومع بدء أول جولة رسمية للمفاوضات هذا الأسبوع، جلس كبير المفاوضين الأوروبيين، ميشال بارنييه وحوله فريقه وأمام كل منهم ملف ضخم حول القضايا الأساسية للنقاش وعلى رأسها فاتورة الطلاق، ووضع المواطنين الأوروبيين في بريطانيا، ومسألة الحدود بين إيرلندا الشمالية (أحدي مكونات بريطانيا العظمي) وجمهورية إيرلندا (عضو الاتحاد الأوروبي)، فيما جلس ديفيز وحوله فريقه بلا ملفات أو حتى ورقة أمامهم. عدم استعداد لندن للمفاوضات لا يمكن اختزاله طبعاً في صورة غياب ملفات أمام وفد التفاوض البريطاني. فهناك مؤشرات أكثر خطورة بكثير, فالمواقف التي ذهب بها الوفد البريطاني إلى بروكسل ليس عليها إجماع داخل الحكومة. فمثلاً حمل ديفيز ورقة تشير إلى موافقة الحكومة البريطانية على قبول «ولاية محكمة العدل الأوروبية» بعد الخروج البريطاني الرسمي من أوروبا بحلول مارس 2019، إذا كانت هناك قضايا تحتم أن يكون هناك دور للمحكمة. لكن هذا الموقف لم ينل دعم كل أعضاء حكومة ماي. فوزير العدل مايكل جوف، الذي يريد أيضاً «خروج خش» من أوروبا رفض دعم ذلك الموقف. كما أن هناك خلافات داخل الحكومة حول طول الفترة الانتقالية التي ستحتاجها بريطانيا لتمهيد الطريق للخروج من الاتحاد بكل قوانينه وآليات عمله. ففيما يريد هاموند ووزيرة الداخلية أمبر راد فترة لا تقل عن عامين، يري ديفيد ديفيز ومعه وزير التعاون الدولي ليام فوكس أن الفترة الانتقالية يجب أن تكون أشهرا فقط. وبينما يرى هاموند وراد، وحتي ماي نفسها، أن بريطانيا يجب أن تحصل على اتفاق مع الإتحاد الأوروبي حتى لو اضطرت إلى دفع 60 مليار جنيه إسترليني فاتورة الطلاق، يريد بوريس جونسون ومايكل جوف ان تنسحب بريطانيا من المفاوضات دون دفع أي مليم للإتحاد الأوروبي. تيريزا ماي هي «شبح» الشخصية التي كانت عليها قبل الانتخابات العامة. وهي تشعر، عن حق، أن سلطتها تقلصت كثيراً بعد خسارة الأغلبية في مجلس العموم. ومع ضعفها المتزايد فقدت بريطانيا البوصلة. وفي الوقت الراهن، مفاوضات البريكست مشهد أليم للبريطانيين، فهي بمثابة مصارعة بين مفاوض من الوزن الثقيل وآخر من الوزن الخفيف, والطرف الذي تكيل له اللكمات، ولو معنوياً حتى الآن، هو لندن.