من الثلاثين من يونيو عام 2013 وحتى الثالث من يوليو من العام ذاته، هى مجرد عدة أيام لا أكثر فى حساب الزمن، وهى فترة صغيرة بل صغيرة جدا من منظور الزمان سواء فى عمر الأمم والشعوب أو عمر الأفراد، ولكن هذه الفترة الصغيرة من منظور مضمونها ومحتواها والتطورات التى شهدتها والأبواب التى أغلقتها وتلك التى فتحتها هى فترة قد تماثل عدة عقود. فلم يكن فى مقدور أحد أن يتصور أن يتم خلع الإخوان من السلطة على النحو الذى جرى به، وهم الذين أتوا إلى الحكم للبقاء عدة قرون كما صرح بعضهم بذلك، كان حكم الإخوان وسيطرتهم على مقاليد الدولة ومفاصلها ينذر بكابوس طويل يجثم على صدر مصر والمصريين، فهم أى الإخوان طوال هذا العام الذى انفردوا فيه بحكم مصر لم يفكروا إلا فى التمكين لمعسكرهم، وإقصاء الآخرين الذين كانوا بالأمس شركاء، والانتصار لأفكارهم ومبادئهم ونظرياتهم وتجاهل الواقع المصرى بتعقيداته وملابساته وتشابكاته. فمن ناحية تجاهلوا الطابع المدنى المعتدل للدولة المصرية منذ بدايتها الحديثة والتقاليد القانونية والسياسية والثقافية التى اعتمدتها وتبنتها، والتى تميزت بالتوازن والتركيب بين الحداثة والتقليد وبين الأصالة والاقتباس وبين روح العصر وروح التراث، وتقبل المصريون بصدر رحب هذه التقاليد، باستثناء بعض الجماعات ومن بينهم الإخوان المسلمون ولمسوا فيها ما كان يستهدفه المشرع الوطنى من توازن وابتكار وتجنب العزلة عن العالم، وكذلك تجنب التقوقع فى الماضى والتراث، وامتزج هذا القبول بالمعاش والممارسة وأصبح جزءا لا يتجزأ من نسيج الحياة الثقافية والسياسية، ومن ناحية أخرى حول الإخوان المسلمون الدين إلى أيديولوجيا أى مجموعة من المفاهيم والأدوات والوسائل للوصول إلى الحكم، وتغييب قيم التسامح والقيم الكونية والإنسانية المضمنة فى الرسالة الإسلامية وغيرها من الأديان، وحولوا الدين الحنيف واختزلوه إلى نسق أيديولوجى مغلق على غرار الايديولوجيات الوضعية الشمولية؛ أى أدوات ووسائل للسيطرة والحكم ومصادرة الآراء الأخرى والرؤى المختلفة لمصالح الرؤية الأحادية التى تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة وتنزع عن مختلف الرؤى الصدقية. أما على صعيد آخر فإن الحكم الإخوانى نصب من نفسه وصيا على المصريين يعرف دينهم بأكثر مما يعرفون، ويحدد لهم ما ينبغى عمله وما لا ينبغى، ويعين حدود الحلال والحرام وحدود الصواب والخطأ، وحدود ما يتوافق مع الدين وما لا يتوافق معه، أى أنهم أنكروا على المصريين حق فهم دينهم وتدينهم بالطريقة التى يريدون والتى هى صحيحة ونابعة من الذكاء الجماعى والقيم التى يتميزون بها، أى البعد عن المذهبية والطائفية ومزج الإيمان بالعمل والسلوك والحياة، وتجنب التعصب والتطرف حمل المصريون خبرتهم الجماعية فى التدين والدين عبر مسيرتهم الطويلة ولم يعرفوا التعصب لمذهب دون آخر وانتقلوا من الحكم الشيعى الفاطمى إلى الحكم الأيوبى السنى انتقالا سلميا واحتفظوا باحترام رموز كلا المذهبين على قدم المساواة. شعر المصريون خلال عام من حكم الإخوان بتهديد مبطن تارة وصريح تارة أخرى لهويتهم ونمط تدينهم وتهديد لوحدتهم وثقافتهم، كما لم يشعروا من قبل، وزود الإخوان من جانبهم المصريين بمزيد من الأدلة والشواهد التجريبية على صدق حدس المصريين وشعورهم، فقد ناصبوا جميع مؤسسات الدولة العداء القضاء والإعلام والجيش والصحافة كما هاجموا المذاهب الأخرى حتى يعيدوا تشكيل هذه المؤسسات على هواهم أو يضمنوا ولاءها لهم. خرج المصريون فى الثلاثين من يونيو من كل حدب وصوب ومن كل فئات المجتمع ليعلنوا غضبتهم ورغبتهم فى التخلص من نظام الإخوان، ومساندتهم القوات المسلحة المصرية التى كانت تعرف تفاصيل المخطط الإخوانى والتى ناشدت الرئيس الإخوانى الامتثال لمطالب الجماهير بإجراء انتخابات مبكرة، وتدخلت عندما تبين لها أن الرئيس يقف بحدة ضد هذا المطلب ومن ورائه من يؤيده من التيارات الإسلامية. أطاحت خريطة الطريق بحلم الإخوان فى السيطرة على الدولة والمجتمع فى مصر، وفتحت الباب أمام الدولة المدنية دولة المواطنة والمؤسسات والقانون وواجهت مصر بجرأة وشجاعة المشكلات المتراكمة والجديدة على حد سواء، الموجات الإرهابية المتلاحقة وإعادة بناء المؤسسات. لم تكن هذه المواجهة محلية مصرية فقط، بل كانت بداية مواجهة إقليمية ممتدة للإرهاب والإسلام السياسى فى المحيط العربى برمته، ذلك أن مخطط التمكين لحكم الإخوان المسلمين لم يكن مقصورا على مصر فقط، بل العديد من الدول العربية، هذا المخطط الذى رسمت ملامحه فى دوائر الاستخبارات ومراكز البحوث الغربيةالأمريكية المرتبطة بدوائر صنع القرار الأمريكى وذلك من خلال الزيارات والتفاهمات والمقابلات التى تمت فى العديد من العواصمالغربيةوالأمريكية. وارتكز هذا المخطط على تعثر النظم التسلطية لما قبل 25 يناير عام 2011 فى طريق الإصلاح واحتواء الاحتجاجات الشعبية المتلاحقة واستمرار القبضة الأمنية والتضييق على الحريات العامة، وأن الإسلام السياسى المعتدل هو القوة الشعبية الوحيدة القادرة على استيعاب هذه الاحتجاجات وملء الفراغ الذى سيخلفه سقوط هذه النظم. يمكن القول: إن تاريخ الشرق الأوسط يختلف اختلافا كبيرا بعد هذه الأيام عما قبلها، حيث كشفت هذه الأيام الأقنعة عن دعاوى الحكم بالدين وأفصحت عن طبيعة العنف الكامن فى هذه الدعوة، وعن مدلولها الطائفى والتمييزى وطابعها البدائى الذى ينتمى إلى عصور ما قبل الدولة الحديثة، عصر العشيرة والقبيلة والغنائم. الأمة المصرية بخبراتها المتراكمة وذكائها وحكمتها المستمدة من عمق التاريخ قادرة على استخلاص الدروس والعبر والحفاظ على تماسكها ووحدتها. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد;