الشعراوى سجد لله بعد هزيمة 67 لرفضه عبد الناصر.. والإخوان فرحوا بهزيمة المنتخب لرفضهم السيسى كرة القدم مثل التشدد الدينى، يمكن توظيفها لإغواء الشباب البرىء والتسلط عليه، فلنتأمل ما حدث مؤخرا.
على أثر الهزيمة الفضيحة التى منى بها منتخب مصر الكروى فى غانا، أبدى الإخوان فرحا يذكرنا بفرح الشيخ الشعراوى الذى سجد شكرا لهزيمة مصر العسكرية أمام إسرائيل فى 67، مبررا ذلك بأنه لم يكن يحب لمصر أن تنتصر وهى تحت حكم عبد الناصر، وبرر الإخوان فرحتهم بالهزيمة أمام غانا بأنهم لا يريدون لمصر الفوز، لكى لا يحصد السيسى ثمار النصر، واستشهدوا بكلام وزير الشباب المصرى قبل المباراة أن انتصار المنتخب سيكون «انتصارا رياضيا بطعم سياسى»، بينما قال مشجعو المنتخب الذين سافروا معه إلى غانا إنهم رأوا الإخوان يوزعون شارة رابعة الصفراء على بعض المشجعين من غانا ليرفعوها فى وجه المصريين لإغاظتهم، وقد شاهدنا صورا لهذا، وسنجد بعض الكتاب المفترض فيهم قدرا من الذكاء واحترام القارئ يواكبون هذه الزفة البائسة، فيكتب أحد المدافعين عن الإخوان فى «القدس العربى» «كان طبيعيا أن نفرح لهذه الهزيمة، لأن المستهدف كان تدشين شرعية السيسى بهذا الانتصار»، تدشين شرعية السيسى؟ وهل يحتاج من خرج ملايين المصريين فى أنحاء مصر مرتين خلال شهر واحد لتفويضه إلى المزيد من التفويض أو الشرعية لكى يلتمسها من مبارة كرة لا دخل له بها؟ فإذا كان هذا هو فكر وعذر النخبة المثقفة الشامتة فى هزيمة مصر، فكيف نلوم البسطاء من شباب الإخوان؟
بعيدا عن هذه التصريحات والمواقف الصبيانية، نلاحظ أن التوظيف السياسى للهوس الكروى لم يبدأ اليوم، ولا هو حصر على المشهد المصرى الداخلى، فما زلنا نذكر مباراة مصر والجزائر فى السودان أيام مبارك، والتى بالغ الإعلام المصرى وقتها فى تضخيم ما وقع من التهجم على بعض المشجعين المصريين من قبل المشجعين الجزائريين، وصعد بعدها اسم علاء مبارك الذى كانت له مداخلات فى برامج التوك شو جرى تقديمه خلالها على أنه المدافع عن كرامة المصريين التى أهدرت على يد الجزائريين، بل قام مبارك نفسه بالتعليق على الحادث دفاعا عن «كرامة المصريين التى لن تهدر أبدا» دون أن يتبع هذا بأى إجراء عملى، وجرى تصعيد الأمر وكأن حربا عسكرية على وشك أن تقوم بين البلدين الشقيقين! وانشغل، أو جرى إشغال الشعب المصرى بهذه الحرب الوهمية الفارغة لعدة أسابيع فى علامة أخرى على مدى الانهيار الذى انحدرت إليه مصر فى ذلك العهد البائس، ولنا فى هذا السياق أن نتذكر أن حربا عسكرية قامت فعلا بين هندوراس والسلفادور فى 69 بسبب مباراة كرة قدم فى التصفيات للتأهل لكأس العالم، وليس صدفة أن البلدين هما من العالم الثالث مثل مصر، ولديها جميعا مشكلات اقتصادية واجتماعية تسلب الشباب فرص الحياة الكريمة وتحقيق الذات.. فى المجتمعات المتعثرة، حيث الحياة صعبة والإمكانات شحيحة، تقدم كرة القدم بديلاً يتشبث به الشباب ليعيش فيه بكل جوارحه وعواطفه المحبطة والمهدرة فى الحياة الخاصة، فبينما تفتقر الحياة الواقعية للشباب إلى عوامل وفرص تحقيق الذات وإشباع الاحتياجات العاطفية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، يقدم عالم كرة القدم بديلا افتراضيا يشغل جزءا معتبرا من وقت وجهد وعاطفة الشباب، ويسمح له بالانضمام إلى جماعة من المشجعين، مثل الأولتراس، تشاركه الهدف والعاطفة، وتمنحه فرصة الانتماء إلى «قضية» أكبر منه كفرد يتحمس وينتصر لها ويشبع من خلالها بعض احتياجاته الإنسانية المفتقدة، فيجد فى انتصار فريقه انتصارا شخصيا له، وفى حماية بقية أقرانه له وقت هزيمة فريقه عزاء وتعويضا لا يجد مثله فى حياته المليئة بالهزائم والإحباطات الشخصية. هذا بالإضافة إلى أن كرة القدم تشبع لدى مشجعها احتياجات أخرى بما تقدمه من متعة جمالية فنية بما تعرض من مهارات وبما تحمل من دراما الفوز والهزيمة، ناهيك عن متعة الإثارة والتوقع والمفاجأة وفرص التواصل والالتحام الاجتماعى مع الآخرين من الأنصار والخصوم على السواء.. كما تقدم كرة القدم لمشجعيها تعويضا عما يفتقدونه من العدالة المثالية على الأرض، ففى لعبة كرة القدم تنتصر الموهبة الحقة دون واسطة أو رشوة أو سرقة، فهى لعبة محكومة بمنظومة علنية من المبادئ والقواعد والقوانين يخضع لها جميع اللاعبين بنفس الدرجة وبنفس القياس، وتطبق فيها القوانين بشكل مكشوف وبصرامة لا ترحم، وينزل فيها الثواب والعقاب فى نفس لحظة الفعل وليس بعده بسنوات إن نزل، ويكون فيه الفوز للأصلح فقط، للكفاءة والتفوق والمهارة والاجتهاد فقط، فهنا لا تنفع محسوبية ولا تجدى واسطة، ولا تنفع القربى لأمير أو لوزير. فاللاعب الماهر يفوز ولو كان ابن غفير فقير، واللاعب السيئ يخسر ولو كان ابن ملك. تنتفى كل العوامل التى تفرق تفريقا ظالما بين البشر. توحد اللعبة بين الإنسانية جمعاء فى إطار واحد من المثالية التى تلغى كل العوامل التى تفرق بين البشر.. من أيديولوجيات ومعتقدات ومذاهب وأديان. ففى ساحة الملعب يقف -أو يجرى- الجميع على قدم المساواة المطلقة، فالملعب لا يعرف مسيحيا ولا يهوديا ولا مسلما ولا بوذيا ولا ملحدا، الجميع سواسية أمام العدالة الكروية المطلقة.
وكرة القدم لعبة لا تتدخل فيها الآلهة، وقد يصلى اللاعب قبل المباراة عشرات المرات، ويسجد مئات الركعات، يرسم على وجهه علامة الصليب كما يحلو له، ويقدم الغالى والثمين من المحرقات والقرابين فتذهب كلها دون جدوى أمام الآلهة التى هى أحكم وأعظم من أن تتدخل لصالح هذا اللاعب أو خصمه لمجرد أنه يحاول رشوتها بركعتين هنا أو قرابين هناك، لنجد أنفسنا فى النهاية أمام حالة إنسانية فريدة باهرة تنتصر فيها الكفاءة وحدها، ويتحقق العدل على الأرض بشكل مطلق نقى مجرد من الشوائب والمثالب.
لهذا كله كان لكرة القدم سحر غريب تتملك به قلوب وعقول محبيها فى كل مجتمعات الأرض، ولا بد أن يكون لهذا الهيام الجماعى من يفكر فى استغلاله، سواء من قبل رجال بزنس يستخدمونه لتسويق السلع وجنى الأرباح، أو من قبل حكومات تجد فى قدرة كرة القدم على إلهاء الجماهير خاصية مفيدة جدا لها، وفى الغرب نجد أن كرة القدم هى أحد أكبر المجالات التجارية فى أوروبا، حيث تصل «أسعار» اللاعبين فى السوق الدولى إلى أرقام فلكية، فاللاعبون والمدربون يباعون ويشترون، وتدفع الماركات العالمية الملايين لكى تضع اسمها فى مكان بارز بالملعب أو على فانلة اللاعب.
ولا تقتصر المتاجرة بكرة القدم على التجارة الصرف بشقها المالى، ولكنها تمتد إلى التجارة السياسية أيضا، فنجد دولا تحاول شراء مكانة كروية لها عن طريق شراء اللاعبين أو المدربين أو حتى رشوة الحكام أو أعضاء الفيفا أنفسهم كما حدث فى بعض الحالات، كما نجد ذلك التوظيف الفاضح لكرة القدم لتحقيق مكاسب سياسية كما أشرت من قبل. وقد تجد الحكومات أن للهوس الكروى فائدة مزدوجة، فهو يمنح الدولة مكانة عالمية على المسرح الدولى، بينما يقوم فى نفس الوقت بإلهاء الجماهير داخل البلد فلا تنتبه وتطالب بما قد ينقصها من حريات أو حقوق سياسية واجتماعية، ويصل الإلهاء إلى حد بالغ الذكاء والتركيب، فالأمر ليس مجرد حضور الشاب للمباراة نفسها فى تسعين دقيقة، ولكن يقدم القائمون على التجارة الكروية عالما كاملا من المعلومات والبرامج والمبيعات والمنافسات والإحصاءات المتدفقة، فتجد أن الشاب قد يكون على معرفة بمن سجل كم هدف فى مباراة وقعت من عشرين سنة، فلديه كل المعلومات والأرقام اللازمة هنا، وبالتالى لم يعد لديه وقت لكى يعرف من فى حكومة بلده الذى يقف ضد رفع الحد الأدنى لأجر هذا الشاب نفسه، وهو ما تريده حكومته بالضبط، ومن هنا نفهم أهمية ذلك الإغواء الذى تقوم به مؤسسات الدولة من ناحية والقوى التجارية من ناحية أخرى، لكى تظل مستحوذة على قلب وعقل جماعات الشباب المتيمين بالكرة فى بلدهم.
وفى مصر فى السنوات القليلة الماضية تصاعدت ظاهرة الأولتراس أو رابطة المشجعين لكل فريق، وقد كتب أحد المعلقين على صفحتى فى «الفيسبوك» وهو أحمد سلطان يقول: «الأولتراس أساء إلى الرياضة ووصم المشجعين الرياضيين بالتعصب والعنف وحض على كراهية المواطنين للرياضة، ونشأة تلك الروابط فى مصر يحتاج إلى بحث مدقق فقد أصبحوا وفى فترة وجيزة للغاية أداة لكسر هيبة الدولة وتحدى الأجهزة الأمنية دون مبرر واضح، ثم من ذا الذى يتحمل نفقات دخلات وشماريخ الأولتراس والتى تصل إلى مئات الآلاف من الجنيهات وجميعهم شباب صغير ما زال يتحصل على مصروفه من أبيه، سوف تنتهى تلك الظاهرة إن آجلا وإن عاجلا وسيبقى السؤال من المنشئ والمحرك لتلك الروابط التى جرت الخراب على مصر والمصريين». وقد كان لشباب الأولتراس حضور فى الثورة كما وقعت لهم وربما منهم حادثة استاد بورسعيد المروعة، والأسئلة حولهم تستحق البحث لمعرفة أسباب وخفايا هذه الظاهرة.
ولكن كرة القدم ليست أقوى وسائل الغواية التى قد يقع فيها الشباب البرىء، ففى بلد مثل مصر كان أول من جاء بأهم الأفكار الدينية على الإطلاق والتى تأكدت بعد ذلك فى كل الأديان، من فكرة الخلود فى الحياة بعد الموت إلى فكرة التوحيد التى قال بها إخناتون، فى بلد كهذا هو أكثر مجتمعات الأرض تدينا، كان من الطبيعى أن تظهر جماعات تعمل على غواية الشباب بأساليب تدين متشددة تقدم باعتبارها هى الدين الصحيح وسواها كفر ومروق، فرأينا كيف فى مصر منذ السبعينيات ومنذ إطلاق يد جماعة الإخوان المسلمين وأفراخها المختلفة على المجتمع نجحت هذه الجماعات فى استقطاب قطاع كبير من الشباب المصرى وإغراقهم فى عالم كامل من الانشغالات بالنوافل من أمور التدين الشكلى المتزمت البعيد عن الروح المصرية الوسطية المتدينة بالسليقة والفطرة، المحبة لربها بشكل سمح معتدل جميل لا يكره الحياة ولا الآخرين، فالتدين المفرط هو نوع من الهروب من الحياة والوقوع فى أحابيل من يتسلطون على الغير بدعوى هدايتهم، وقد وجد نظام السادات ثم نظام مبارك من بعده فائدة فى استمرار حالة الإلهاء هذه توهما أن هذا يضمن لهم البقاء فى السلطة، وهو ما ثبت خطأه.. ولكن الضرر كان قد وقع، فمدى الضرر الذى أحدثه فكر «الدجل الدينى» على جيلين كاملين فى مصر ضرر هائل بلا شك، فقد قام هذا الفكر بإغواء وإشغال الشباب بالذات إشغالا كاملا وباهظا بقضايا وإشكاليات وهمية وغيبية وسلفية منفصلة تماما عن احتياجات الواقع، ورأينا من خرج من هذه الفترة يحمل درجة الماجيستر والدكتوراه، ومع ذلك يقضى وقته مهموما بإشكاليات مثل بأى قدم يدخل المرحاض وبأى قدم يخرج منه، وقد وقع فريسة لداعية قد لا يحمل أكثر من شهادة الثانوية أو كلية عملية يقدم له هذه الإشكالية باعتبارها أهم ما يجب أن يشغله من الدين، فكانت النتيجة الحتمية أن سقطت مصر إلى قاع الأمم فى كل المجالات العلمية والاقتصادية والاجتماعية وكادت أن تخرج من العصر ومن التاريخ تماما، بينما استطاع دعاة هذا التيار استلاب عقول الجماهير حتى أعطتهم أصواتها فى انتخابات مجلس الشعب ثم انتخابات الرئاسة فى مصر بعد الثورة.
ولكن كان لثورة 25 يناير ثم مكملتها ثورة 30 يونيو عواقب بالغة الأهمية فى ما يخص القضاء على ظاهرة إغواء الجماهير سواء بالهوس الكروى أو بالدجل الدينى، فقد تمكن المصريون فى فترة وجيزة من التخلص من أخطار الغوايتين معا، فمع التخلص من الحكم الإخوانى كان لا بد أن يصاحبه التخلص من أسلوبهم فى الغواية بالدجل الدينى الذى كان هو سبب افتضاحهم ثم سقوطهم، كما يبدو أن المصريين يعيدون النظر فى ظاهرة الأولتراس والهوس الكروى بشكل عام فى العودة إلى طبيعتهم المرحة غير المتشنجة التى كانوا يشجعون بها الأهلى أو الزمالك أو غيرهما فى وسطية عاقلة ويتنافسون فى نوع من الدعابة المحببة والمشاكسة بين الأصدقاء، وليس إلى حد الهياج والقتل وإطلاق النيران وبقية طقوس الهوس الكروى.
لعل بركات الثورة تنقذنا جميعا من الاستسلام لغواية أى هوس من أى نوع.