يرجع الدكتور محمود إسماعيل ظاهرة التشوه فى منظومة القيم والأخلاق إلى الردة على العدالة الاجتماعية التى أسستها ثورة يوليو, وإلى المخطط الصهيونى الأمريكى الذى يهدف إلى إضعاف الشخصية المصرية والقضاء عليها ليسهل تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد . ويؤكد إسماعيل أن «الإسلام الشكلاني» اهتم بمشروع التمكين وتغاضى عن العمل على استعادة قيم وأخلاق المصريين.. وإلى تفاصيل الحوار: بعد نحو أربعة عقود من التدين الشديد للمجتمع المصري.. هل أثمر ذلك تحسنا خلقيا؟.. أم العكس؟ ولماذا؟. التدين خلال الفترة الماضية كان نتيجة تعاظم ظاهرة السلفية التى تروج لما أطلق عليه «الإسلام البدوي», وأعنى به انتشار المذهب الوهابى من خلال التنظيمات السلفية. وهذا يرجع إلى عامل اقتصادى بالدرجة الأولى، وهو يكمن فى تحول مصر من بؤرة لجذب الأجانب باختلاف أجناسهم، إلى بؤرة طرد لأبنائها, ليهجروها للعمل فى دول الخليج, وما ترتب على ذلك من تحول الكثيرين منهم إلى دعاة للسلفية فى مصر. أما فيما يتعلق بتنظيم الإخوان، فبعد محنتهم فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، نزحوا أيضا إلى دول الخليج وكونوا ثروات طائلة، ثم عادوا إلى البلاد فى عهد الرئيس السادات الذى استخدمهم لمواجهة الناصريين والماركسيين ، وحدث أن انقلبوا عليه وقتلوه فى أكتوبر 1981. أما عن تنظيمات الجهاد والجماعة الدينية والتكفير والهجرة فهم يمثلون إمتداد للجهاز السرى الذى أسسه مؤسس الجماعة حسن البنا. وكل هذه الجماعات التكفيرية الإرهابية تنهل من فكر المنظر الإخوانى سيد قطب. وهو فكر أبعد ما يكون عن المباديء السمحة للإسلام. إذن فما تفسيرك لفشل لظاهرة التدين فى المجتمع فى الارتقاء بالشخصية المصرية؟. من الإنصاف أن نذكر أن ظاهرة التدين ولدت فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات وتعاظمت فى عهد مبارك فى صورة نوع من «الهوس الديني» الذى يشغل الخاصة والعامة على السواء فى جدل «سفسطائي» يسيء إلى الدين من ناحية، ويؤدى إلى التشرذم والصراع الذى وصل إلى حد التطرف والإرهاب والعنف فى المجتمع وما يصاحبه من تدنى فى الأخلاق. وبوصول الإخوان إلى الحكم عقب ثورة 25 يناير، جرت على قدم وساق محاولة عرفت باسم سياسة التمكين, كمقدمة إلى تحويل الحكم المدنى الديمقراطي، التى قامت من أجله الثورة، إلى نظام ثيوقراطي، يوظف الدين لتخدير الشعب تحت مسمى إحياء الخلافة الإسلامية. ولكن مخططهم فشل.. ألا يشير هذا إلى تميز وتفرد الشخصية المصرية؟. هذا لأن الشخصية المصرية مؤسسة على دعائم قوية قوامها التدين المعتدل. لهذا رفضت صيغة الإخوان الدينية, بعد أن فطن المصريون بأن إسلام الإخوان أبعد ما يكون عن صحيح الإسلام . من هنا كانت الموجة الثانية للثورة فى 30 يونيو 2013. من البديهى أيضا ان تتعاظم تحت حكمهم ظاهرة الفساد الخلقى وظهور البلطجة وقطع الطرق، وعرف المصريون لأول مرة فى تاريخهم ظاهرة الإلحاد كرد فعل لأطروحات الجماعات الإسلام السياسي، وهو أمر لا يزعجنا كثيرا، لأن كل الثورات الكبرى كان يتبعها مؤقتا حالة من الفوضي. ما أهم سمات الشخصية المصرية عبر تاريخها الطويل؟. الأخلاق من أهم خصائص الشخصية المصرية، فالمجتمع المصرى بإعتباره مجتمعا زراعيا بالأساس، يعكس القيم والمثل العليا، على اعتبار أن حرفة الزراعة تقوم على أساس العمل المشترك والجهود الجمعية. ومن ثم فصفات التعاون والتكافل والعمل الجمعى والمشاركة الوجدانية فى الأفراح والأحزان، إنما هى نتاج الإشتغال بالزراعة. و أول وثيقة أخلاقية فى التاريخ هى ما عرف «بنصائح الحكيم بتاح حتب» التى تفسر لماذا إشتهر المصريون بخاصية البناء وخاصية النظام وهما تشكلان أهم أعمدة الحضارة. وليس جزافا أن تكون مصر هى التى شهدت أول دولة مركزية فى التاريخ، حيث كان الحاكم يتمتع بسلطات تؤهله لما يسميه علماء الإجتماع بعملية الضبط الإجتماعي، وهذه السلطات مستمدة من كونه مسئولا عن التوزيع العادل لمياه النيل على كافة القرى والنجوع. ومن ناحية أخرى كان الدين ولا يزال يلعب دورا مهما فى عملية الضبط الإجتماعى هذه. أيضا كانت مصر أول دولة فى التاريخ تصل إلى حقيقة عبادة الإله الواحد الأحد التى أبدعها الفرعون المستنير «إخناتون» وذلك قبل ظهور الأديان السماوية. مصر أيضا على الرغم من تعرضها منذ أواخر العصر الفرعونى إلى أخطار الغزاة من الفرس واليونان والرومان والبيزنطيين، وحتى فى العصور الحديثة من الإستعمار الفرنسى والإنجليزى على الرغم من ذلك كانت الحضارة المصرية على عكس كل الشعوب. فمصر كانت تناقض مقولة ابن خلدون الشهيرة عن ميل المهزوم ومحاكاته وتقليده لثقافة المنتصر. كل هذا وغيره الكثير يؤكد على أن الأخلاق نبتت فى مصر وترعرعت عبر العصور وذلك باعتراف عالم المصريات الأمريكى الشهير «هنرى بريستيد» فى مقولته الشهيرة عن كون مصر هى التى أنجبت ضمير الإنسانية. كيف؟. تدين المصريين يتسم طوال عصور التاريخ بسمة الإعتدال وسمة الإبداع فى نفس الوقت، فمصر المسيحية هى التى وهبت العالم المسيحى ظاهرة «الرهبنة» التى تقوم أساسا على الأخلاق ومصر الإسلامية هى التى أهدت العالم الإسلامى «التصوف المفلسف». وإذا كانت أول دعوة للتوحيد فى مصر تمت على يد إخناتون والرهبنة على يد القديس أنطون، والتصوف فى صيغة ذى النون المصري، فنحن نعتقد أن الثلاثة تنتهى أسماؤهم بالواو والنون وهذا سر لم يكتشف بعد فى الشخصية المصرية, وليس جزافا أن القرآن الكريم تبدأ إحدى سوره ب «نون والقلم وما يسطرون».. وفيما يتعلق بالمسيحية فقد كان المذهب الأرثوذوكسى إبداعا لكنيسة الإسكندرية وهو أكثر المذاهب تعبيرا عن «العقيدة الصحيحة» وإذا كانت كل البلاد التى انتشر فيها الإسلام قد شهدت ظاهرة الصراع المذهبى بين فرق السنة والشيعة والخوارج والمعتزلة وغيرها, فمصر هى البلد الإسلامى الوحيد الذى لم يشهد هذه الظاهرة. وعندما نعرض لما استجد على الحياة الدينية فى مصر خلال العقود الأربعة الماضية من ظهور تيارات دينية متطرفة ولدت جميعها من رحم تنظيم الإخوان فيجب أن نتذكر أن هذه الجماعة من حيث قيامها كانت مرتبطة بالإستعمار البريطانى لمصر. هل الشخصية المصرية مستهدفة بالتشويه والتدمير من قبل الغرب؟. بعد الجلاء سلمت بريطانيا ملف تنظيم الإخوان إلى السفير الأمريكى فى مصر جيفرسون، لذلك لا أندهش مما يجرى الآن على ساحة العالم العربى من تنفيذ مخطط صهيونى أمريكى يستهدف تدمير الشخصية المصرية فى مشروع نظّر له المستشرق اليهودى «برنارد لويس» , وهو مخطط يستهدف تشويه الشخصية المصرية أولا, بإعتبارها «حجر الزاوية» لوحدة وسلامة الدول العربية كافة . لذلك لا نندهش من حرص أمريكا إلى الآن غلى دعم ومساعدة لتنظيم الإخوان والجماعات الأخرى التى خرجت من عباءتها، بهدف تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذى يستهدف إعادة رسم خريطة العالم العربى فى صورة كيانات طائفية متصارعة بما يشكل ضمانا لبقاء إسرائيل. وكانت المفاجأة أن المصرى بتدينه المعتدل وفطرته وشخصيته نجح فى إفشال المخطط الصهيونى الأميريكى. كيف أثرت السياسات الإقتصادية خلال الأربعة عقود الماضية على قيم وأخلاق المجتمع؟. نتيجة الانفتاح الاقتصادى وما ترتب عليه من الردة على مبدأ العدالة الإجتماعية الذى طرحه وطبقه عبد الناصر واستبداله باحتكار نحو مائتين من رجال الاعمال فى مصر لقوى الانتاج, وما نجم عن ذلك من خلل البناء الإجتماعي, حيث تكونت طبقة أرستقراطية تحتكر الثروة واختفت الطبقة الوسطى تماماً وتضخمت قاعدة الطبقات الدنيا والمهمشة مما أدى الى تعاظم ظاهرة الفقر، فاستثمرت التيارات المتأسلمة تلك الفرصة وقامت بأعمال خيرية فى ظاهرها، ولكنها فى الحقيقة تعمل على جذب المزيد من الأعوان والأتباع استعداداً للإنقضاض على السلطة بإسم الإسلام وتحت دعوى إحياء الخلافة الإسلامية، يضاف إلى ذلك ما جرى فى عهد الرئيس المخلوع مبارك من ولائه التام للأمريكان وتنفيذ مخططاتهم وذلك عن طريق شل نشاط الأحزاب السياسية وترك الميدان مفتوحا للإخوان والجماعات المتطرفة الأخرى. فى ظل كل هذا حدث التردى فى منظومة القيم والأخلاق وهو ما تؤكده مقولة عالم الإجتماع إبن خلدون حين يقول «يختلف الناس فى عوائدهم ونحلهم وأخلاقهم وقيمهم بإختلاف حظهم من المعاش». وفى غياب دور الأزهر ظهرت وتفاقمت ظاهرة «الإسلام الشكلانى» الذى إهتم بالسفاسف كآداب المرحاض ونكاح الجهاد وإرضاع الكبير ..إلى آخره ، بعيدا عن المبادىء الجوهرية التى تحض على العدالة وحسن الخلق وآداب التعامل والمساواة. وما علاقة ثورة 23 يوليو 1952 بما حدث للشخصية المصرية؟. ماحدث ليس نتيجة ثورة يوليو, بل الردة عليها.والخروج على صيغتها الإشتراكية التى كانت تهدف إلى تحقيق العدالة الإجتماعية، واستبدالها بالنمط الرأسمالى الطفيلى. فقد تحول نحو 80% من المصريين إلى مهمشين، ونحو 60% حاليا يعيشون تحت خط الفقر، فضلا عن تكبيل الأجيال المتلاحقة بديون وصلت إلى نحو تريليون ونصف تريليون جنيه, بما يشكل عائقا كبيرا أمام محاولات الإصلاح التى تتبناها الحكومة الحالية. وهل لسياسة التعليم مردود على منظومة القيم والتقاليد؟. من أهم أسباب الفساد الأخلاقى، تحلل نظام التعليم، فخلال العقود الأربعة الماضية استحدثت منظومة تعليمية تعمل لصالح المخطط الصهيونى - الأمريكى ، من حيث خلق نوعين من التعليم: الأول هو تعليم خاص بالطبقة الأرستقراطية الجديدة، للحفاظ على بقائها وضمان ما حققته من مكاسب اقتصادية وسياسية، من خلال تولى الوظائف العليا فى البلاد، والمتفوقون منهم يبعثون إلى جامعات الغرب ليعودوا فيما بعد للهيمنة على مقدرات الحكم. والثانى تعليم عام جرى تخريبه بفعل فاعل، بحيث وجدنا أن المستوى التعليمى والتربوى والثقافى لخريجى المدارس والجامعات الحكومية دون المستوى ولا يؤهل سوى للانضمام للملايين من العاطلين الذين يمثلون ظاهرة البطالة التى تفاقمت وصارت عصية على الحل. وماذا عن الأسرة المصرية ودورها التوجيهى والتربوى؟. نتج عن الأوضاع المعيشية للمجتمع أن تحللت الأسر، بعد هجرة الكثير من الآباء إلى الخارج للعمل وساهم غياب القدوة والمربى وولى الأمر فى انتشار الأمراض والانحراف الخلقى وانتشار الإدمان وما يترتب على ذلك من عنف وازدادت الخطورة مع سياسة العولمة، وتعدد وتنوع القنوات الفضائية ونشر صيغ العنف والانحراف من «افلام الأكشن» و«أفلام الجنس» إلى آخره. وحتى بعد تخرج الأبناء من الجامعات لعبت البطالة دورا فى المزيد من الفساد والإفساد. ولعل هذا يفسر ظاهرة إنتشار المقاهى تحت أسماء أجنبية ، والنوادى وما يجرى فيها من محاكاة أبناء الطبقة العليا للنمط الرأسمالى الاستهلاكى الغربى. يقول أمير الشعراء أحمد شوقى «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا»، فكيف السبيل للخروج من أزمتنا وتردى منظومة قيمنا؟ إصلاح الأحوال الإقتصادية يترتب عليه العودة إلى القيم والمثل العليا الكامنة فى الشخصية المصرية، ومعلوم ان الظلم الإجتماعى والثورات عموما تمر بمرحلة إنتقالية تعيد خلالها عملية البناء والإعمار . ولكى نستعيد منظومة القيم والأخلاق لمجتمعنا لابد من استرداد دور وهيبة الدولة ومواجهة الفساد ،والإهتمام بالأسرة المصرية وإيجاد السبل لحل القضايا الإجتماعية. وإصلاح نظام التعليم فى كل مراحله، وإستعاده دور الأزهر الشريف لمواجهة ظاهرة التطرف والتكفير والعودة إلى قيمنا وأخلاقنا.