لا يزال الجدل محتدما حول مدى صواب القرارات الاقتصادية التى اتخذت فى نوفمبر الماضى بتعويم الجنيه ورفع سعر الفائدة وزيادة أسعار المحروقات، وزيادة الدين العام الخارجى والداخلى معا. فقد ترتبت على هذه القرارات نتائج قيل إنها لم تكن متوقعة، لعل أهمها الارتفاع المتزايد فى معدل التضخم الذى بلغ أخيرا 32%، وإن كانت بعض المجموعات السلعية التى تمس الحياة اليومية للناس مثل الغذاء قد ارتفعت فعليا ما بين 70% و100%. كذلك تراجعت قيمة الجنيه أمام العملات الأخرى كنتيجة مباشرة للتعويم إلى نحو 40% مما كانت عليه قبل التعويم. وقد شكلت هذه الآثار أعباء وضغوطا كبيرة على الطبقات المتوسطة والفقيرة، حيث أصابت ذوى الدخول الثابتة وأغلبهم من العاملين بأجر وأصحاب المعاشات، وذوى الدخول الريعية مثل إيجارات العقارات وفوائد الودائع، حيث فاق معدل التضخم معدل الفائدة بالنسبة للفئة الأخيرة، وجعلت جزءا كبيرا من القيمة الحقيقية للمدخرات النقدية يتلاشى. وفى جانب الاستثمارات كان متوقعا أن يكون انخفاض الجنيه محفزا على زيادة تدفقات الاستثمار الخارجي، لكن بيئة ومناخ الاستثمار والتعقيدات اللائحية والإدارية وانتشار الفساد، لم يحفز الاستثمارات الاجنبية المباشرة، وإنما حفز (عكسا للتوقعات) قدوم الاموال الساخنة التى تستهدف الربح السريع من مضاربات البورصة، والتى تفاقم أوضاع قيمة الجنيه وتوجد تقلبات وفقاعات سعرية فى البورصة مع حركة دخولها وخروجها. وهذه الظروف لم تكن محفزة للاستثمارات الداخلية المباشرة لأن سعر الفائدة العالى شكل عائقا وتكلفة عالية لتوسع المشروعات القائمة لأن الغالبية العظمى منها تعتمد فى جزء من تمويل أنشطتها وتوسعاتها ورأسمالها العامل على القروض. بالتالى شكل سعر الفائدة العالى مصدر جذب لتوجيه المدخرات للأوعية المصرفية والنقدية مثل الودائع وأذونات الخزانة التى زاد عائدها كثيرا مع ارتفاع الفائدة، بعيدا عن الاستثمار المباشر فى ظل الانخفاض النسبى لعوائده وعلو مخاطره. وقد أصابت هذه التغيرات سلبيا الكثير من المشروعات التى اقترضت بالعملات الأجنبية قبل التعويم أو تعتمد فى نشاطها على مكونات يتم استيرادها. أضرت هذه التغيرات بالكثير المشروعات المتوسطة والصغيرة التى عانت من تقلبات الأوضاع السياسية والأمنية منذ ثورة 25 يناير التى انعكست سلبا على البيئة الاقتصادية التى تعمل فيها. وتعثر الكثير منها أو أغلق مصانعه نتاجا لهذه الظروف التى صاحبها عدم القدرة على سداد قروضها للبنوك. وكانت المشروعات الصغيرة والمتوسطة هى الأكثر تضررا من هذه التقلبات والأوضاع بحكم كونها لا تملك ملاءة من الاحتياطيات أو الموارد الإضافية لمجابهة هذه الظروف وامتصاص صدماتها. ونتج عن هذا آلاف من المصانع والمشروعات المتعثرة التى يتهددها شبح الإفلاس. ومن الطبيعى أن يكون تشغيل الطاقات المعطلة الممثلة فى هذه المصانع والمشروعات أحد أهم التحديات التى تواجه السياسات الاقتصادية. لكن التحدى الأكبر هو معدلات بطالة العاملين التى كانت مرتفعة أصلا قبل ثورة 25 يناير وما بعدها، وزادت زيادة كبيرة فى الفترة الأخيرة، وباتت مع معدلات التضخم المرتفعة والمتصاعدة تمثل حالة من الركود التضخمى المعقد. وبدلا من مواجهة أوضاع وعوامل الركود التضخمي، بالتعامل مع أسباب وليس أعراض المشكلة وأولويات التصدى لها واستخدام الأدوات المناسبة لهذه الأسباب، التى طال انتظارها، جاء قرار الزيادة الأخير لسعر الفائدة 2% مرة واحدة فى محاولة للسيطرة على التضخم، استنادا إلى افتراض خاطئ وهو أن التضخم مدفوع بزيادة الطلب وليس نتاجا لزيادة تكلفة عوامل الإنتاج ونتاجا للاحتكارات التى تسيطر على قطاعات مهمة. ويعنى القرار الأخير وما سبقه من قرارات منذ نوفمبر الماضى أن الحكومة والجهاز المصرفى لايتعاملان مع عوامل وأسباب المشكلة وتوابعها الجسيمة والقطاعات الحقيقية فى الاقتصاد التى تعانيها، وهى الصناعة والزراعة والتجارة والسياحة والخدمات المنتجة. الأولويات التى ينبغى أن تولى العناية الأكبر فى المرحلة الحالية تقع فى دائرة الاقتصاد الحقيقى المتمثل فى إنتاجية وتنافسية قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة والخدمات المنتجة والتجارة الداخلية والخارجية خاصة التصدير، وهى تتجاوز دائرة الاقتصاد النقدي. وتعتبر قطاعات الاقتصاد الحقيقى ضعيفة الاستجابة لسياسات وأدوات البنك المركزى المستخدمة حاليا، اللهم إلا من حيث تفاقم أوضاعها. وهناك حاجة لأن تكون الأولوية رقم واحد للسياسات الاقتصادية هو تشغيل الطاقات العاطلة فى كل قطاعات الانتاج الحقيقى وزيادة إنتاجيتها وتنافسيتها وزيادة قدرتها على توسيع التشغيل وعلى التصدير. ويعنى هذا رفع إنتاجية عوامل الإنتاج جميعها، وتحسين مواصفات المنتج ليلتقى مع المواصفات العالمية، وليكون قادرا على التنافس عالميا. ويتطلب هذا التركيز من خلال مبادرة قومية وشاملة على تحسين الإنتاجية ومواصفات المنتج بهدف التصديرالذى يمثل أحد أهم الأولويات التى ينبغى تبنيها. ويمثل الإصلاح الجوهرى لبيئة ومناخ الاستثمار وتبسيط العوائق اللائحية والإدارية والتصدى الحقيقى لممارسات الفساد والابتزاز التى يخضع لها المستثمرون أولوية مساوية لتحسين الإنتاجية والتنافسية، وينبغى أن يستهدف الإصلاح هنا تحسين تنافسية مصر فى جذب الاستثمارات المباشرة التى تضيف إلى القدرات الإنتاجية والتصديرية للإقتصاد المصري، وتزيد من استخدام عوامل ومكونات الإنتاج المحلية.الأدوات التى تناسب دائرة الاقتصاد الحقيقي، تتجاوز أدوات السياسات النقدية، فبعضها يتعلق بكيفية تحفيز ودعم قدرات قطا عات الاقتصاد الحقيقى لتحسين وتوسيع التشغيل (خاصة الطاقات العاطلة والمشروعات المتعثرة وإن كانت الأخيرة تتطلب تغييرا جوهريا فى سياسات القطاع المصرفى تجاهها) ورفع الإنتاجية ومواصفات الإنتاج وتنافسية القطاعات الإنتاجية والتصدير. وهناك ضرورة لأدوات قوية لتحفيز ودعم مواصفات الإنتاج والدعم المكثف لجهود التصدير الذى ينبغى أن يتحول إلى هدف قومي. وسيعنى هذا أيضا ضرورة زيادة تنافسية القطاعات وتفعيل أدوات مجابهة الاحتكارات التى تسيطر على قطاعات عديدة، من خلال أدوات تشريعية ومؤسسية. لمزيد من مقالات د. أحمد صقر عاشور