منذ ثلاثين عاما، قمت بإعداد دراسة موسعة عن قياس عدالة الأجور فى مصر، قدمت وقتها لرئيس الدولة مباشرة؛ كشفت فيها عن فجوات واختلالات عميقة فى هياكل الأجور للقطاع الحكومى وقطاع الأعمال العام والقطاع الخاص، كانت تنذر بعواقب وخيمة إذا لم توضع سياسات لعلاجها. وقدمت الدراسة توصيات بضرورة وجود سياسات تحقق عدالة الأجور، وتحفز على الإنتاجية، وتربط الأجور بالأسعار، وتمنع ظواهر الفساد فى قطاعات الدولة. لم تؤخذ مضامين الدراسة وتوصياتها وما كشفت عنه من اختلالات بجدية، ولم توضع سياسات تعالج أسباب الفجوات والاختلالات، حيث لم تدار الدولة ولا الاقتصاد بسياسات ممنهجة وفق رؤية إستراتيجية مدروسة.وخلال العقود الماضية تفاقمت واستفحلت مشكلات الأجور والأسعار والإنتاجية، وتراجع أداء التنمية نتاجا لغياب السياسات المنبثقة من رؤية إستراتيجية. وتحولت الظواهر التى بدأت تتشكل وتظهر أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات مثل الفساد وعدم الالتزام الوظيفى والتراخى فى الأداء فى قطاعات الدولة إلى سمات غالبة ومتضخمة ومستقرة فى هذه القطاعات. وصاحب هذا خلال العقود الأربعة الأخيرة تراجع فى نصيب الأجور من الدخل القومي، ونمو متسارع فى الأنشطة الريعية غير المنتجة، ومنها أنشطة المضاربة والفساد، واتساع فى قاعدة الفقر. وصار تضخم الأسعار الناتج عن الاحتكارات، وبطء نمو قطاعات الانتاج وإنتاجية عوامل الانتاج ؛ آفة تلتهم أى زيادات فى الأجور. لقد اتخذت الحكومة خلال الأيام الأخيرة قرارات بتفعيل الحدين الأدنى والأقصى للأجور، وقرارات أخرى بضغط عجز الموازنة العامة تضمن رفع الدعم جزئيا عن الطاقة والسلع البترولية، وزيادة الضرائب والأسعار لبعض مجموعات السلع. فهل تكفى هذه القرارات لعلاج المشكلة؟ فى تقديرى أن الدولة فى حاجة إلى تبنى حزمة متكاملة من السياسات والمبادرات التى تعالج الآتي: أولا: توسيع قاعدة الإنتاج وزيادة الإنتاجية. ينبغى أن تتوجه السياسات هنا إلى الحد من نمو الأنشطة الريعية التى لا تسهم بقيمة مضافة، والتصدى للأنشطة الطفيلية والفساد، وإلى تشجيع وتحفيز نمو قاعدة الإنتاج. ومن هذه الأنشطة مثلا المصانع والمنشآت التى أغلقت أو قلصت من نشاطها نتاجا للظروف الصعبة التى مرت بها البلاد خلال السنوات الأخيرة منذ ثورة 25 يناير، وأيضا منذ الأزمة العالمية فى 2008. سيحتاج الأمر هنا إلى إنشاء صندوق قومى يشجع هذه المنشآت ويعاونها فى أن تستعيد عافيتها، وأن تتوسع فى الإنتاج والتوظيف. هناك أيضا حاجة لإعادة النظر فى حوافز الاستثمار لجعلها مرتبطة بالإنتاج والتصدير واستخدام مكونات محلية، وتشغيل عمالة والدفع العادل لها (الحد الأدنى للأجور)، والاستثمار فى تنمية قدراتها بالتدريب وسداد الضرائب، وتنمية المجتمع المحلي، والحفاظ على البيئة. كذلك هناك حاجة لأن تشتمل الحزمة الموجهة للقطاع الخاص على سياسات حاسمة لتشجيع المنافسة، والحد من الاحتكارات ووضعها تحت الرقابة المشددة خاصة فى مواصفات الجودة والأسعار والحفاظ على البيئة وسياسات التوظيف، وتنمية الإنتاجية. هناك أيضا حاجة إلى تقديم حوافز للمنشآت الكبرى والمتوسطة لكى تنمى روابط اقتصادية مع المنشآت الصغيرة والمتناهية الصغر لإدخالها فى دائرة التعامل المنتظم الذى يدمجها مع الاقتصاد الرسمي، ووفق ضوابط للالتزام بحقوق العمال، خاصة الحد الأدنى للأجور والضمان الاجتماعي. ثانيا: إصلاح هياكل الأجور وتحسين نصيبها من الدخل القومي. سيتطلب الأمر هنا وضع سياسات لإصلاح هياكل الأجور، خاصة فى قطاع الدولة الذى أصبح مع الاختلالات والتشوهات التى أصابته خلال العقود الأربعة الأخيرة مثل الثوب المهلهل الذى لم يعد يصلح لمزيد من رتق ثقوبه التى طالت كل جزء فيه. وسيحتاج هذا إلى خطة متوسطة الأمد لعلاج التضخم الوظيفى الذى لحقه خلال العقود الأخيرة، فحجم العمالة فى قطاع الدولة يفوق الآن 6.5 مليون موظف، وهو من أكبر المعدلات عالميا مقارنة بعدد السكان. وهذا العدد المتضخم كان سببا فى عدم إدخال إصلاحات جوهرية على مستويات الأجور فى هذا القطاع، لأنه كان يعنى زيادة مكونها وهو الجزء الأكبر فى موازنة الدولة التى تعانى منذ عقود طويلة من عجزا مزمنا. ويحتاج الأمر إلى تحقيق العدالة والتوازن فى هياكل الأجور بين مختلف المؤسسات التابعة للدولة. وربما تكون هناك فروق فى طبيعة الوظائف ومستويات الخبرة والمسئولية بينها، لكن هذه الفروق لا تبرر التفاوت الشاسع بين ما يدفع لبعض هذه المؤسسات (قطاع البترول مثلا) ولغيرها لمجرد أن الأولى تسيطر على موارد سيادية ذات قيمة عالية. فجزء كبير من تميز هذه المؤسسات يمثل أوضاعا ريعية، ولا يعبر عن قيمة مضافة للعمالة التى تضمها هذه القطاعات المتميزة. لكن بنفس المنطق لا ينبغى أن تتم معاملة هياكل الأجور فى الشركات والهيئات الاقتصادية العامة بنفس منطق نظام الأجور فى القطاع الحكومي. فلابد من إدخال مرونة تسمح بأن تتوافق هياكل الأجور، خاصة العليا منها، مع ما هو سائد فى شركات القطاع الخاص المناظرة. وليس من المنطقى مثلا أن يدفع للقيادات العاملة فى قطاع البنوك العامة ما يجعلها متساوية مع القطاع الحكومي، فالأنسب أن تتقارب وتتناظر مع ما يدفع فى البنوك الخاصة، مع الأخذ فى الاعتبار فروق حجم الأعمال والأداء. معنى هذا ضرورة إعادة النظر فى الحد الأقصى ليسمح باستقطاب الكفاءات والحفاظ عليها، وكذلك بتحقيق العدالة الخارجية بمقارنتها بنظائرها فى القطاع الخاص. الأهم فى تقديرى هو فى ضبط القيمة الحقيقية للحد الأدنى للأجور بربطه بمعدلات التضخم فى الأسعار، وجعله وسيلة لتحقيق الحد الأدنى من المتطلبات المعيشية الإنسانية، وبحيث يكون سياج حماية للنزاهة للمستويات الدنيا من الوظائف، خاصة فى قطاع الدولة (للتغلب على دوافع الفساد الصغير)، ويكون أيضا أداة لتقليص الفقر ووسيلة لتنشيط الاقتصاد، إذا تم تعميمه ليس فقط على قطاع الدولة، وإنما على منشآت القطاع الخاص. هكذا فعلت البرازيل خلال النصف الثانى من التسعينيات، وخلال حكم لولا دى سيلفا، حيث تم التوافق بين نقابات العمال وتنظيمات القطاع الخاص والحكومة على تعميم الحد الأدنى للأجور، وبحيث تتم مراجعته دوريا وتعديله فى ضوء معدلات التضخم. لقد استطاعت البرازيل من خلال مزج هذا بحوافز للاستثمار وتهيئة بيئة مواتية ومشجعة للقطاع الخاص، وكذلك بأدوات أخرى لتحسين دخول الطبقات الفقيرة أن تنعش الاقتصاد، وتوسع من قاعدة الإنتاج فيه، وفى نفس الوقت تقلص بصورة جوهرية من معدلات البطالة والفقر. وفى الحالة المصرية سيحتاج الأمر إلى إعطاء أهمية لتوسيع تطبيق الحد الأدنى للأجور بالاتفاق مع تنظيمات القطاع الخاص ووفق حوافز وضوابط مناسبة، مع مراجعته دوريا وتعديله وربطه بمعدلات التضخم. وهذا الأمر لا غنى عنه وإلا سيصبح تطبيق الحد الأدنى بلا معنى فى ظل الارتفاعات المتوالية فى الأسعار.هناك أيضا ضرورة لأن يعاد بناء هياكل الأجور فى قطاع الدولة فيما بين الحدين الأدنى والأعلى لتحقيق العدالة الداخلية من جهة، ولإزالة التشوهات فى هذه الهياكل ولربطها بالمسئوليات والخبرة والتأهيل والكفاءة المطلوبة، وتخصيص جزء متغير يمثل حوافز الأداء. كل هذا ينبغى أن يستهدف زيادة إنتاجية عنصر العمل وأن يحقق العدالة الأجرية بما يمكن من زيادة نصيبه من العوائد الاقتصادية فى مختلف القطاعات. ثالثا: السيطرة على التضخم والأسعار. يتحقق هذا من خلال مجموعة من السياسات: (1) توسيع قاعدة الإنتاج وزيادة الإنتاجية فى مختلف القطاعات الاقتصادية. (2) حماية وتشجيع المنافسة وتحجيم والسيطرة على الاحتكارات فى مختلف القطاعات. (3) الرقابة المشددة والرادعة للتلاعب بالأسواق وتحجيم المضاربة مع دخول الدولة من خلال مؤسساتها الاقتصادية بتوفير السلع الأساسية بأسعار مناسبة وفى كل مناطق مصر خاصة المناطق والأحياء والقرى الفقيرة. (4) تحجيم العوامل الخبيثة المسببة للتضخم، وتتمثل فى أنشطة المضاربة والأنشطة الريعية وتعاملات الفساد، فهذه الأنشطة لا تقابلها قيمة مضافة، وتمثل قوة شرائية لا يقابلها إنتاج. (5) تضافر السياسات النقدية للسيطرة على السيولة والنقود المتداولة مع السياسات المالية لتكون محفزا على النمو وأداة لتوفير البنية الأساسية ولبناء رأس المال البشرى والمعرفى ولتحقيق العدالة الاجتماعية.