لقد كانت الأيام الماضية من الأيام التاريخية بالنسبة للاقتصاد المصري، فقد تم اتخاذ خطوات غير مسبوقة لتحرير أسعار الصرف وحزمة قرارات اقتصادية أعلن عنها المجلس الأعلى للاستثمار، وبعد ساعات قليلة من تحرير سعر الصرف أعلنت الحكومة عن رفع أسعار الطاقة أو ترشيد لجزء من دعم الطاقة. الإجراءات الاقتصادية شملت عدة خطوات أو محاور: إيجاد نظام مرن لسعر الصرف يعكس السعر الحقيقى للجنيه ويوفر العملة الأجنبية. والسيطرة على عجز الموازنة من خلال رفع جزئى لأسعار الطاقة وتطبيق ضريبة القيمة المضافة لتوسيع القاعدة الضريبية. ومجموعة من الإجراءات لتحسين مناخ الاستثمار من خلال المجلس الأعلى للاستثمار. وقد يختلف العديد حتى من بين الاقتصاديين على توقيت هذه القرارات ومدى تحمل الشارع المصري لتبعات هذه القرارات على المدى القصير. ولكن يتفق الجميع على أن هذه الإجراءات هي إصلاح لاختلالات هيكلية نعانى منها منذ سنوات. ودعونا نتفق على بعض الملامح الأساسية التي يجب أن تعيها المجتمعات التي تمر بمرحلة إصلاح اقتصادي: أولاً: إن كل إجراء للإصلاح له تكلفة وله عائد ودور صانع السياسة الاقتصادية أن يعظم هذا العائد، وأن يقلل من التكاليف المحتملة، وأن يكون مستعداً بالأدوات التي يعوض بها الفئات والطبقات التي يقع عليها في الأغلب الأعم بتكلفة الإصلاح، وهى في العادة الفئات الأقل دخلاً. ثانياً: إن ما يحدث من خطوات إصلاحية أو تصحيحية في بلد ما ليس بالضرورة أن تأتى بنفس النتائج في بلد آخر، فكل قرار أو إجراء تصحيحي يختلف باختلاف الدولة ومعدل نمو الاقتصاد، والتركيبة السكانية وقطاعاتها الإنتاجية المختلفة، وتركيبة صادراتها ووارداتها ودرجة تنافسيتها إلخ... لذلك لابد من الاستفادة من تجارب الدول الأخرى واستخلاص ما يلائم النموذج المصري. ثالثاً: إن التأخر في إجراءات الإصلاح يؤدى إلى أن تكون تكلفة الإصلاح أكثر ألماً، وقد لا تؤتى الثمار والعائد الذى كان متوقعاً لو كان تم أخذ القرار في الوقت الصائب. وبالتالي لم نعد نستطيع اتباع سياسة ترحيل الأزمات إلى المستقبل. رابعاً: إن الظروف السياسية والإقليمية والدولية قد أصابت العالم كله بقدر عال من الاضطراب، كما أن معدلات النمو الاقتصادي إقليمياً ودولياً أصبحت تعانى من تباطؤ شديد، مما يجعل ما نواجهه الآن من تحديات اقتصادية أكثر حدة وإلحاحاً. خامساً: بالنسبة للوضع في مصر أعتقد أنه غير ذي جدوى الدخول في جدل، بأن هذه الإصلاحات كانت لازمة للحصول على قرض الصندوق من عدمه. فالإصلاحات كانت ضرورية وملحة لإصلاح الوضع الاقتصادي في مصر، بصرف النظر عن حاجتنا للتسهيلات الإضافية من الصندوق ولشهادة الثقة من المؤسسات الدولية. فاللجوء إلى صندوق النقد الدولى لا يمثل منهجاً خاطئأ في حد ذاته طالما اعتمدنا في ذلك على سياساتنا الخاصة التي تنبع من رؤيتنا لظروفنا الداخلية. فالدول التي مرت بأزمات اقتصادية نجد أن هناك من عقد اتفاقاً مع صندوق النقد الدولى مثل أندونيسيا وكوريا الجنوبية، ودول أخرى رفضت اتفاق الصندوق مثل ماليزيا. بصفة أساسية سأتحدث اليوم عن قرار تحرير سعر الصرف، فبالتأكيد جاء قرار تحرير سعر الصرف كخطوة غير مسبوقة في الاقتصاد المصري منذ سنوات، فمصر ظلت لعقود طويلة تنتهج سياسة الحفاظ على قيمة الجنيه وعملت على إرساء مبدأ استقرار اسمي للعملة. لكن ارتفاع معدلات التضخم المحلى وانخفاض موارد الدولة من النقد الأجنبي وزيادة عجز ميزان المدفوعات والميزان التجاري بصفة خاصة نتيجة زيادة الواردات حتى بلغت 80 مليارا، وانخفاض الصادرات السلعية التي وصلت إلى 18 مليار دولار، أدى إلى ضغط شديد على العملية المحلية نتج عنها انخفاض حاد في سعر الصرف الجنيه الحقيقي أمام العملات الأجنبية. كما أن وجود تقلبات وأسعار متعددة للدولار في السوق، ووجود (سوق أو أسواق موازية)، كان يمثل قلقا لدى أصحاب الأموال الراغبين في الاستثمار، سواء كانوا مستثمرين محليين أم أجانب، ولذلك فإن مرونة سعر الصرف لضمان توازن العملات الأجنبية أمام الجنيه هو قرار حتمي. وترك التسعير طبقا لقوى العرض والطلب بآلية الانتربنك مع إشراف البنك المركزى كمراقب ومنظم فقط. لقد عشنا العام الماضي مختزلين مشكلاتنا الاقتصادية في أزمة سعر الصرف في حين أن المشكلة الأساسية هي عصب الاقتصاد المصري. والذى تباطأ نموه سنة بعد أخرى على مدار السنوات الماضية، ومع هذا التباطؤ استمرت معدلات الزيادة السكانية بمعدلات كانت في بعض السنوات تفوق معدلات النمو الاقتصادي. ونتيجة لذلك زادت معدلات الاستيراد وقلت معدلات الصادرات. أعلم أن هناك نقصا مستمرا في موارد الدولة من النقد الأجنبي وقد يعزى بعض منها لظروف سياسية وخارج إطار التحكم فيها ولكن عصب أي اقتصاد متنوع مثل مصر هي القطاعات الإنتاجية الرئيسية، القطاع الصناعي والقطاع الزراعي مع سياسات استثمارية محفزة. لن أطيل في تشخيص أسباب الأزمة ولكن المهم الآن وبعد اتخاذ هذه القرارات الاقتصادية الإصلاحية الصعبة ان نستكمل منظومة الإصلاح بخطوات تنفيذية أخرى وسياسات وإجراءات استثمارية محفزة مع برنامج حماية اجتماعية لمحدودي الدخل والتوسع في برامج وأدوات لتخفيف المعاناة على الطبقات متوسطة الدخل الذين يعانون من ارتفاع الأسعار. فالتعافى من الأزمات الاقتصادية يرتبط دائما بدفع فواتير اقتصادية واجتماعية وتطاول هذه الفواتير مختلف القطاعات والشرائح الاجتماعية ولكنها تكون أكثر حدة في الطبقات الأقل دخلاً. إلا أن الموقف يحتاج تعاون الجميع لإنجاح هذه القرارات. لقد تم اتخاذ بعض الخطوات الخاصة برفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، كما تم الإعلان عن زيادة الفئات المستهدفة من الدعم النقدي، وزيادة المبالغ المخصصة لمعاش الضمان الاجتماعي، وغيرها، ولكن من الضروري الإسراع بخطوات تنفيذية نحو توفير ما نستخدمه من موارد النقد الأجنبي، مع محاولة زيادة حصيلة إيراداتنا منه حتى نساعد على استقرار منظومة أسعار الصرف في المدى القصير. يجب أن نعى أنه عادة بعد تحرير أسعار الصرف يمر السوق بفترة من التذبذب، ولكن بنهاية هذه الفترة يستقر الدولار عند السعر العادل والوصول إلى حالة الاستقرار مرتبط بتعاون الجميع وعدم شراء الدولار إلا عند الحاجة الدولية لذلك، والإسراع بتنفيذ خطوات الإصلاح الاقتصادي وقدرته على جذب استثمارات أجنبية مباشرة وغير مباشرة في سوق المال. ومن المهم أن تقدم الحكومة برنامجاً متكاملاً بأرقام محددة وإطار زمنى واضح، تحدد فيه المستهدف الوصول إليه بعد هذه الإجراءات. من زيادة في معدلات التشغيل وارتفاع في مستويات الصحة والتعليم، وهو الهدف الأساسى من أي إصلاح اقتصادي. لابد من ترشيد منظومة الاستيراد مع تحديد الأولويات، وخاصة أن اتفاقية الجات تعطينا حق اتخاذ إجراءات استثنائية في ظل ظروف استثنائية. ويرتبط هذا بزيادة نسبة المكون المحلى ومدخلات الإنتاج في المصانع الحالية وإحلال ما يتم استيراده. ووضع خطط محددة بأرقام مستهدفة لزيادة حصيلة الصادرات السلعية على مدار عامين، مع تفعيل دور هيئة المواصفات والجودة. وإقامة تجمعات زراعية وصناعية ومتكاملة ضمن استراتيجية دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة. مع تحديد الصناعات ذات الميزة التنافسية في كل منطقة فيجب أن تتجه سياسة الاستثمار الداخلي إلى مبدأ التوزيع الجغرافي للمحافظات، وبالتالي تتم إقامة الصناعات الجديدة في المناطق التي تزداد بها نسب البطالة ومعدلات الفقر وتتم إقامة الصناعات وفقاً للميزة التنافسية التي تتمتع بها كل محافظة. ويتم ذلك من خلال ايجاد التنافسية بين المحافظات المختلفة لاستكشاف الإمكانيات الكامنة في ال 27 محافظة في إطار الخريطة الاستثمارية المتكاملة للدولة. إن مواجهة قطاع المنتجات غير الرسمي تتطلب وضع حلول غير تقليدية لتشجيع هذا القطاع علي الاندماج والتعامل معه بشكل رسمي. ويجب ألا ينظر إليه من منطلق الجباية وزيادة الحصيلة الضريبية للبلاد فقط، حيث إن هذا القطاع يستوعب في حدود 70% من الداخلين لسوق العمل، وبالتالي يقترح الاستماع إلي آرائهم وتوفير آلية للمشاركة بين المنظمات غير الحكومية ومنشآت القطاع غير الرسمي من خلال توفير التمويل اللازم لهم وتشجيع العاملين فيهم علي الانضمام للقطاع الرسمى. وإعادة هيكلة منظومة التجارة الداخلية وإتاحة البيانات والمعلومات عن السلع ومدي توافرها وأسعارها للمواطنين، بالإضافة إلى أهمية تقوية وتمكين دور الأجهزة الرقابية بالإمكانات والكوادر مثل جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية وجهاز حماية المستهلك حتى يقوموا بدورهم بكفاءة بمثل هذه الظروف. إن تحسين مناخ الاستثمار لا يحتاج إلى تعديل تشريعى بقدر ما يرتبط بسرعة الانتهاء من الإجراءات المرتبطة بمنح التراخيص، وبالتالي لابد من الانتهاء من منظومة الخروج من السوق، مع العمل على سرعة استكمال جميع مشروعات الميكنة والنمذجة لهيئة الاستثمار والجهات التابعة لها لتقليل تدخل العنصر البشرى في التعاملات مع المستثمرين. إن تطوير وتوسيع شبكة الحماية الاجتماعية هو جزء أصيل في برنامج الإصلاح الاقتصادي، ولكن من المهم تنقية شبكة الدعم المقدم من خلال الكروت الذكية والذى يجب أن يبدأ من خلال إنشاء قاعدة بيانات موحدة للمواطنين مما سيحسن من قدرة الدولة على تحديد مستحقي الدعم. ويجب أن نعى جميعاً أن الحماية الاجتماعية الحقيقية هي توافر فرص عمل لائقة للمواطنين والذى هو الهدف الأساسي لبرنامج الإصلاح الاقتصادي. أحد وأهم عوامل ضبط الإنفاق هو التحول من الموازنة العامة الحالية إلى موازنة البرامج والأداء، مما يربط بين تنفيذ الموازنة وبين النتائج المستهدفة منها. ولابد من تضافر جهود الحكومة والشركات ومنظمات المجتمع المدني لتكوين منظومة متكاملة ومستدامة للمسئولية الاجتماعية. إنشاء إطار مؤسسي لمبادرات الخاصة بالمسئولية الاجتماعية للمؤسسات والشركات المختلفة، وتطوير خريطة المسئولية الاجتماعية لسد الفراغ الموجود في الخريطة الاستثمارية المصرية من قبل الدولة، بما يدعم التوظيف الأمثل للبرامج الاجتماعية. كما اقترحت سابقا إنشاء مجلس استشاري اقتصادي اجتماعي. ومثل هذا النوع من المجالس يهدف إلي دعم المشاركة المجتمعية في مناقشة كل الأمور الاقتصادية والاجتماعية وجميع السياسات والبرامج الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ولكنها تساعد وهو المطلوب في هذه المرحلة في قياس انعكاسات أو المردود الاجتماعي لكل السياسات الاقتصادية المختلفة علي مكون هام وهو العدالة الاجتماعية. كما أنها تقوم بآلية المتابعة لتنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي بقدرٍ عالٍ من الاستقلالية. وأخيراً وليس آخراً، فالاهتمام بالبعد الاجتماعي والأخلاقي، وهذا البعد هو في نظري الأهم في منظومة الإصلاح الطويلة المدى، حيث يتعامل هذا البعد مع القيم الإنسانية والسلوكيات المختلفة، ويعلي من قيم الجودة والانضباط والأنماط الاستهلاكية. وهي قيم يمكن الارتقاء بها علي المدى المتوسط من خلال التوعية والإعلام والمدى الطويل من خلال منظومة التعليم الجيد. فهذه المنظومة هي أساسية والتي بدونها لا يمكن للاقتصاد أن يحقق التنمية المستدامة التي يهدف إليها. أدرك وأقدر صعوبة الموقف، ولكن بدون تعاون الجميع حكومة، قطاعاً خاصاً، مجتمعاً مدنيا وأفراداً، لن تحقق برامج الإصلاح الاقتصادي الأهداف المرجوة منه. لمزيد من مقالات د.هالة السعيد;