لم يكن السيد يسين( 19337102) مفكرا عاديا أو فيلسوفا تقليديا بل كان صاحب مشروع فكرى متكامل للنهضة القومية ليس فقط لوطنه مصر بل لأمته العربية , فالسيد يسين تطرق عبر رحلته الفكرية الإبداعية لكل مجالات النهضة وكيفية التغلب على التحديات التى تواجهها طارحا مشروعا فكريا للنهضة القومية , تناوله فى 40 كتابا و 8 مجلدات موسوعية وأكثر من 400 بحث ودراسة , ومئات المقالات السيارة فى الصحف والدوريات العربية والأجنبية , فضلا عن المشاركة فى 500 مؤتمر وندوة بحثية بأوراق عمل داخل مصر وخارجها . ............................................... فالخريطة المعرفية للسيد يسين سيطر عليها ما أسميه «روح البحر»- نسبة الى سكندريته - التى تقبل بالعصف الذهنى وتلاقح الأفكار وتياراتها , وهذا هو سر إطلاعه الواسع على ثقافات العالم باللغتين الإنجليزية والفرنسية , فلم يكن مفكرا مغلقا أو ناقدا جامدا وإنما فيلسوفا موسوعى الثقافة وشيخا لفلاسفة عصره ومفكريه , بدأ حياته الفكرية إخوانيا من 1946الى 1952 تحول عنها لدراسة الحقوق فى جامعة الإسكندرية ثم الانتماء الى مدرسة التحليل الماركسى عندما التحق بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية 1957 ثم تبنى نظرية النقد الاجتماعى السياسى عندما التحق بفريق عمل مجلة السياسة الدولية بالأهرام فى 1967 وكان من مؤسسى مركز دراسات الأهرام 1968,مع العلامة الدكتور بطرس غالى , وفى التسعينيات تبنى بعض الأفكار الليبرالية لينتهى به المطاف الى الرسو فى قلب مدرسة الطريق الثالث ليكون واحدا من أبرز روادها ومفكريها العرب فى المنطقة والعالم , وهو كما يقول عن الطريق الثالث هو الموقف الوسط الذى يحاول إقامة التوازن بين الصالح الخاص ( الليبرالية ) وإشباع الصالح الاجتماعى ( الاشتراكية الماركسية) بحيث لا يجور أحدهما على الآخر وهذا يتطلب مراقبة دائمة , ويتوقع يسين انتصار مشروع الطريق الثالث عالميا بعد تجاوز العالم لمرحلة الشعبوية التى بدأت حقبتها مع انتخاب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب . ويؤمن شيخ الفلاسفة بتواصل الأجيال فى مدرسة مشروع النهضة , ويرى أن هذا المشروع الذى وضع لبناته الأولى مثقفو القرنين التاسع عشر والعشرين يحتاج طوال الوقت وقودا فاعلا وقوة دفع غير عادية أساسها تلاقح الأفكار والرؤى ومن ثم تواصل الأجيال , فإذا كان المفكر والعلامة الدكتور جمال حمدان قد آمن بعبقرية الجغرافيا السياسية لمصر , فإن السيد يسين آمن بعبقرية الفكر المصرى العربى وقدرته على بناء أسس للنهضة الشاملة والخروج من حالات التهميش والتبعية والتخلف . وقد امتدت مدرسة يسين الفكرية خارج مصر الى الوطن العربى فى مشرقه ومغربه , ودليلنا أن يسين مع الدكتور العلامة الراحل بطرس غالى المؤسس لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية فى الأهرام كأول مركز من نوعه على الاطلاق فى الوطن العربى أخذا وآخرون على عاتقهم نشر فكرة هذا المركز فى ربوع الوطن العربى , ليتلاقح الفكر العربى عبر هذه النوعية من مراكز التنوير وصناعة الفكر كأداة أولى تتوازى مع باقى الوسائل لبناء فكر النهضة العربية الشاملة , كما تبنى يسين وآخرون معه فكرة تحاور النخب الفكرية العربية فيما بينها مع تعدد تياراتها ومذاهبها وتحاورها مع النخب السياسية مع تعدد انتماءاتها وأيديولوجياتها , ولهذا الغرض عقدت مئات المؤتمرات والحلقات النقاشية فى عواصم عربية خاصة بيروت , لتحقيق هدفين متوازيين الأول , هو وضع ملامح مشروع النهضة العربية من الناحية الفكرية , والثانى بناء أرضية مشتركة لهذا المشروع مع النخب الحاكمة وبالتالى تسهيل عملية تطبيقه على أرض الواقع . وقد نجحت هذه الجهود فى خروج المشروع الفكرى الأول للنهضة العربية برعاية من مركز دراسات الوحدة العربية فى تسعينيات القرن العشرين ثم توالت بعد ذلك الأطروحات, ولولا الخلافات السياسية العربية وصراعات أهل الحكم فى بلداننا لأتت هذه المحاولات الجادة أكلها ولحققت أهدافها , لكن سياسة الحكم الشمولى التسلطى أفسدت فكر النهضة وعطلته حتى الآن . ويعتمد مشروع يسين للنهضة الشاملة على خمس ركائز أساسية وهى ,أولا , اعتماد المنهج النقدى فى مراجعة التراث الاجتماعى العربى فكريا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا لبيان المثالب وطرح بدائل جديدة لمسار النهضة , فأسس مواجهة التخلف وعجز المنطقة عن تنمية ذاتها تنطلق من الايمان بضرورة بناء سياسات تعليمية شاملة لبناء العقل النقدى لدى شعوب الوطن العربى , وتعتمد التعليم المدنى الحديث فى مجالاته المتعددة سواء التطبيقى أو الاجتماعى , والانفتاح على الشعوب الغربية المتقدمة حضاريا فى مناهج الدراسة والتعليم , ويتوازى مع هذا وبنفس الفلسفة دور واسع لمؤسسات الثقافة العامة والاعلام فى نشر التعليم والثقافة المدنية على أوسع نطاق بين الناس . وقد اهتم يسين وأخرون من مدرسته بتقديم معالجات نقدية للأوضاع التعليمية والثقافية فى وطننا العربى مطالبين هئيات التعليم والثقافة والمؤسسات الدينية الاسلامية والمسيحية باجراء مراجعات فكرية نقدية للفكر الدينى وتجديده لمواجهة فكر التطرف وصناعة الارهاب , وقدم يسين اقترابات متكاملة فى كيفية هذه المراجعات وضروراتها والتى لو تم تبنيها لكانت أنجع السبل لمواجهة صناعة التطرف فى منطقتنا , حيث يؤمن يسين بأن هذا التطرف والارهاب هو أخطر أعداء التقدم والنهضة الشاملة , وبالتالى معالجته فكريا وثقافيا وتعليميا ضرورة الضرورات لاستكمال مسيرة مشروع النهضة , وبقدر النجاح فى هذه المهمة يكون القدر المنجز من مشروع النهضة والتحديث والتنمية الشاملة , لأن تنمية العقول هى محور أى مشروع للنهضة ووقوده والذى باستمراره تتدفق فى شرايين التنمية الدماء والعكس بالعكس . ثانيا, يرى يسين أن البحث العلمى الرفيع على حد وصفه هو أداة نقل الدولة العربية من حالة التخلف لحالة التقدم انطلاقا من دراسات حالة لتجارب التنمية فى بلدان أوربا الغربية والولايات المتحدة والنمور الاقتصادية فى أسيا وأمريكا اللاتينية , ويرى يسين أن وضع وحالة البحث العلمى ومؤسسات صناعة التكنولوجيا فى أى بلد كاشف لمدى قدرة هذه الدولة أو تلك على سلوك مسلك الدول الناهضة والسير فى مشروع النهضة . ثالثا, يرى يسين أن الصناعة بتعدد مجالاتها هى قلب عملية التنمية الشاملة فى مشروع النهضة, لأنها تحرك معها فكر المجتمع الى مرحلة الابداع والاضافة المعرفية كما تنقل قدرات المجتمع من حالة الاستهلاك الى مرحلة التصدير بما فى ذلك من دلالات ومردود وتوظيف للقدرات البشرية بشكل علمى مخطط ومن ثم زيادة القيم المضافة اقتصاديا وثقافيا للمجتمع , كما أن الصناعة بما يسبقها ويستتبعها جملة من المشاريع الخدمية والبنية الأساسية تؤدى الى تسريع التنمية البشرية ومن ثم تحقيق عدالة التنمية فى ربوع الوطن, كما أنها تنقل دور الدولة من حالة الدولة المستجدية للمساعدات والمنح والمستقبلة لمنتجات الآخرين الى دولة مشاركة فى التنمية العالمية والاستثمار العالمى والمستقلة فى قرارها الاقتصادى ومن ثم السياسى , وبالتالى لديها قدرة الفعل لا مستقبلة فقط لأفعال الأخرين , وهذا الوضع يعزز فاعلية دور الدولة ورؤيتها المستقلة إزاء قضايا منطقتها والعالم من حولها . رابعا, يرى يسين أن أكثر دول العالم تأذيا من السياسات الدولية هى المنطقة العربية قلب العالم ومركزه , ولعل استمرار الصراع العربى الاسرائيلى بدون حل نهائى حتى الآن خير دليل على ذلك , ومن ثم فأزمات وحروب المنطقة وما يحدث فيها إنما هو فرع من فروع استراتيجية تأزيم المنطقة والانقضاض عليها من قوى بعينها فى العالم , واذا كان يسين لايؤمن بنظرية المؤامرة الا أنه يقر بوجودها وبمخططاتها التى عرفت تاريخيا فى صور مثل سايكس بيكو, ووعد بلفور, ومشروعات وخطط الشرق الأوسط الكبير , ويرى يسين أنه يجب على الدول العربية دعم اطارين فى حركتها لمواجهة هذا التحدي, أولها التعددية القطبية فى العالم والتى تتيح للعرب حرية حركة على المستوى الدولى أفضل , وفى هذا الاطار لابد من تفعيل المنظمات الاقليمية الرئيسية وهى حركة عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الاسلامى والاتحاد الافريقى والجامعة العربية , والنظر لمسألة الوحدة العربية بمنهج وظيفى تكاملى وتفعيل البعد الشعبى الثقافى لها ليكون قوة دفع للأمة العربية فى مواجهة محاولات تهميشها والسيطرة عليها , وثانيها إسراع وتيرة تطبيق وتنفيذ مشروع النهضة الشاملة فى الوطن العربى ، فالعالم لن يعترف الا بالقوى الناهضة والمتقدمة . خامسا , اعتماد الديمقراطية وثقافتها كوسيلة لادارة شئون المجتمعات لا غاية فى حد ذاتها وهو ما أكدت الحاجة اليه أحداث الربيع العربى وما بعده حيث يعتبر يسين أن الأهم هو سقوط الأنظمة الشمولية التى تقوم على احتكار السلطة، وصعود موجة الليبرالية والتعددية السياسية من خلال حركة الجماهير السلمية الإيجابية التى خرجت لكى تقضى على الاغتراب السياسى والاقتصادى والثقافى الذى عانته طويلا , ومعنى ذلك سقوط الأنساق السياسية المغلقة التى كانت تحتكر الحقيقة السياسية، وظهور أنساق سياسة مفتوحة تتعدد فيها الأصوات المعارضة , وهو أمر لابد من استثماره فى حركة النهضة. رحل يسين المفكر المهموم بأمته والمثقف المتفاعل مع قضايا عصره ,رحم الله عالمنا الكبير وأدخله جنة الفردوس وجعل تركته من العلم صدقة جارية له إلى يوم الدين .