لا ريب أن أفكار الحداثة العربية فقدت فارسا كبيرا من فرسانها برحيل الدكتور صادق جلال العظم، بعد أن قضى مؤخرا في ألمانيا عن عمر يناهز ال 82 عاما ليثير رحيله المحزن جدلا جديدا حول قضايا الحداثة في العالم العربي. فقد جاءت كل الأعمال الثقافية للمفكر السوري الدكتور صادق جلال العظم الثقافية مؤكدة على أهمية القيم الحداثية ومنجزات الحداثة وتجلياتها في كل اوجه الحياة بالمجتمعات المتقدمة وهو بحق احد اهم من تناولوا بمنظور نقدي البنى الفكرية المهيمنة على العقل العربي. وفي سياق رثاء هذا المفكر الكبير الذي أكد أيضا على قيمة الحرية؛ استعاد معلقون وكتاب مجموعة كتبه التي حركت الساكن في الثقافة العربية وأثارت بل ومازالت تثير الكثير من الجدل الثقافي؛ مثل "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، و"جولة نقدية في فكر المقاومة الفلسطينية"، و"في الحب والحب العذري"، و"العلمانية من منظور مختلف". وفي كتابها "الفكر العربي المعاصر.. دراسة في النقد الثقافي المقارن"؛ تقول الباحثة والاكاديمية اللبنانية الدكتورة اليزابيث كساب أن هناك وجوها ظهرت في الثقافة العربية بعد حرب 5 يونيو تطالب بقوة بتعميق النقد مثل صادق جلال العظم في الفلسفة والتنوير وسعد الله ونوس في الدراما والثقافة وقسطنطين زريق في التاريخ والنظرية الحضارية وعبدالله العروي في التاريخ ونوال السعداوي في الدراسات النوعية. وعلى الرغم من الاختلافات بينهم، فإن اليزابيث كساب تلاحظ في كتابها انهم اتفقوا على ضرورة "استصلاح الامكانات النقدية للناس باعتبارهم مواطنين وبشرا، ونقد الذات واعادة فحص بعض اساليب التفكير السائدة"، فيما ترى ان "الرغبة في الحياة واعادة التفكير السياسي الجذري من اهم القضايا بالنسبة للفكر النقدي العربي". وقد توقفت الدكتورة اليزابيث كساب عند سؤال هام وهو: الى اي مدى ومن اي منطق قام المفكرون النقديون العرب بعد نكسة 1967 باعتبار الأزمات الثقافية ازمات سياسية؟ وفي هذا الكتاب سنجد أيضا أسئلة من قبيل: لماذا سبقتنا الشعوب الأخرى؟ كيف يمكننا ان نتغير ونتطور من دون ان تطغى الهوية الغربية علينا فنفقد روحنا العربية؟ كيف نسترجع من الماضي مجدنا وكرامتنا وفخرنا وكيف نعود الى قوتنا السياسية والعسكرية والعلمية والاقتصادية والثقافية. وها هو المفكر المصري السيد يسين يقول ان صادق جلال العظم برز في السياق الفكري النقدي العربي على وجه الخصوص بكتابه الرائد في "النقد الذاتي العربي" والذي حلل فيه اسباب الهزيمة العربية في حرب الخامس من يونيو مستخدما منهجية التحليل الثقافي. ويوضح السيد يسين ان اهمية كتاب "النقد الذاتي العربي" تتمثل في انه دشن مرحلة جديدة في الفكر العربي هي مرحلة "النقد الذاتي"، مضيفا: "ونحن نعلم ان النقد الذاتي ليس تقليدا عربيا حيث يندر ان يعترف الناس بأخطائهم ولكنه على العكس فضيلة غربية". ولاحظ بعض المعلقين مثل الدكتور عبدالعليم محمد أن المشروع النقدي لصادق جلال العظم كان سابقا لكثيرين غيره من المفكرين العرب الذين اتخذوا اتجاه نقد الفكر والعقل العربيين خاصة مشروع الراحل الدكتور محمد عابد الجابري حول "نقد العقل العربي"، ومشروع الراحل جورج طرابيشي حول "نقد نقد العقل العربي". كما رأى عبد العليم محمد في مقال نشرته جريدة "الأهرام" ان مشروع العظم استند الى منهجية مختلفة ورؤية مغايرة؛ "من حيث ارتكازها في مجملها على منجزات الحداثة العقلية الغربية والفلسفية والفكرية التي تجاوزت في تقديره الاقليمية والمحلية والجغرافيا لتصبح منجزات كونية وعالمية وانسانية فرضت نفسها طوعا أو كرها, اختيارا أم اجبارا باعتبارها من ضرورات التقدم وجوهره ولايمكن بحال السير في هذا الطريق دونها". واوضح أن "الهاجس الاساسي الذي تملك عقل وروح العظم هو الغوص في اعماق الوعي واللاوعي والبنى الثقافية والفكرية المنتجة للأفكار السائدة واستثمر في هذا حصاد معارفه وتخصصاته الفلسفية والفكرية والنفسية من اجل استجلاء الجذور العميقة في الثقافة والمجتمع العربيين التي تسوغ قبول الافكار السائدة وتسوغ اعادة انتاجها على مر السنين". وأعاد الدكتور عبد العليم محمد للأذهان ان نهج رواد الاصلاح والنهضة في العالم العربي يجيب ب"نعم"، على أسئلة مثل "هل يتوافق الاسلام مع الحداثة وهل يتوافق الاسلام مع الحرية وهل يتوافق الاسلام مع العالم الحديث؟ ومن جانبه نوه الباحث والمعلق الدكتور وحيد عبد المجيد الى ان المفكر السوري صادق جلال العظم هو صاحب أحد أهم الكتب في حقل الخطاب الديني؛ وهو كتاب "نقد الفكر الديني"، الصادر عام 1970 والمترجم الى عدة لغات وأمضى حياته في دفاع مستمر عن "العقل الممنوع من أداء وظائفه في منطقة لا تعرف له قيمة". وتابع: "آمن الراحل الكبير بأن تجديد العقل العربي الغارق في متاهات الخرافة هو السبيل الى انهاء حالة الاستعصاء على التقدم" كما شدد على ضرورة "وقف استغلال الدين لأهداف سياسية ولم يرضخ للابتزاز الذي تعرض له والارهاب الذي ترصده". وفي سياق نعيه لأستاذ الفلسفة الذي أغنى المكتبة العربية بكتبه الفلسفية والنقدية؛ كان المفكر المصري السيد يسين قد وصف الدكتور صادق جلال العظم بأنه "رائد للنقد الذاتي العربي"، فيما اشار الى ان العظم استفاد من "مفهوم الشخصية الفهلوية" الذي سبق وان صكه المفكر المصري الراحل الدكتور حامد عمار في كتابه "تجارب في بناء البشر". وواقع الحال أن السيد يسين أوضح هذا الموضوع بجلاء في كتابه "الشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر"، والذي صدرت طبعته الخامسة في هذا العام الذي يوشك على الرحيل عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. و"الشخصية الفهلوية" في نظر صادق جلال العظم تزدهر في المجتمعات التي ترتكز في سلوكها ونظراتها على نمط الحياة التقليدي الاتباعي فيما حاول العظم الربط بذكاء بين سمات الشخصية الفهلوية كما سبق وان حددها الدكتور حامد عمار وبين السلوك العربي. ورأى الراحل الجليل استاذ اصول التربية حامد عمار والذي يوصف "بشيخ التربويين" ان التعليم الجيد في مصر يعني "ثقافة قوية وفاعلة تسهم في بناء الحضارة العالمية" كما ان هذا التعليم يعني تنمية اقتصادية وبشرية تنتشلنا من هوة التخلف معتبرا ان "مشكلاتنا ترجع لعدم وجود نظام تعليمي فعال يسهم في بناء انسان مصري متحضر يعتمد العقل في حل مشاكله ولايعتد بالخرافة". وإذ دعا الراحل صادق جلال العظم لدولة المواطنة فيما تتعدد الطروحات والاجتهادات الثقافية حول سبل مواجهة "الذهنية المتطرفة والنسق العقلي المغلق المضاد للتقدم والمناهض للمجتمع الحديث والتنوع الثقافي" ها هو المفكر المصري الدكتور سمير امين يطالب بدوره بالسعي "لاعادة بناء دولة المواطنة المستقلة الحديثة". ولعل الجدل الثقافي حول الحداثة بعد رحيل فارس الحداثة العربية صادق جلال العظم يدور سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة حول قضية "النسق المغلق والنسق المفتوح"، بقدر ما يسعى لتقديم إجابات لإشكاليات الجمود والدوران في الحلقة المفرغة. وإذا كان صادق جلال العظم قد انحاز بوضوح "للنسق المفتوح"، فالنسق كما يقول المفكر المصري الدكتور مراد وهبة والمعني بقضايا التنوير هو "الربط بين جملة أفكار ربطا عضويا بحيث لا يتيسر معه فصل فكرة عن الأفكار الباقية إلا بالقضاء على النسق كله"، فيما يوضح انه كان مهموما منذ خمسينيات القرن العشرين بمفهوم النسق عند كل من الفيلسوف الألماني كانط والفيلسوف الفرنسي برجسون. كان مراد وهبة يرى في البداية ان الغاية من هذا الربط العضوي "الصعود نحو المطلق ومع تحقيق هذه الغاية ينغلق النسق ويصبح غير قابل للتطور" وكان رأيه ان الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط الذي قضي عام 1804 كان على وعي بأنه يريد تأسيس نسق مغلق وبالفعل اصدر الدكتور مراد وهبة كتابا بهذا المعنى عنوانه "المذهب عند كانط". ومع ذلك؛ فإن الدكتور مراد وهبة فوجئ كما يقول بأن الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون كان قد رأى أن النسق يمكن أن يكون مفتوحا حتى ان برجسون تساءل في كتابه "الضحك": "ماذا يضحكنا؟"، ويجيب هذا الفيلسوف الفرنسي الكبير الذي قضي في الرابع من يناير عام 1941 بقوله: "يضحكنا ان نجد انفسنا داخل نسق جاهز ويضحكنا قبل كل شيء ان يكون المرء نسقا يمكن لآخرين ان يدخلوا فيه بسهولة اي ان يتجمد الانسان في نسق". ويوضح برجسون فكرته فيقول: "ان الفكر يتصلب فيعند.. ومن يعند ينتهي الى ان يلوي الأشياء وفقا لفكره بدلا من ان ينظم فكره وفقا للأشياء".. ويتساءل المفكر المصري مراد وهبة: "اذا كان ذلك كذلك فهل قبل برجسون ان يصوغ افكاره دون ان يدخلها في نسق؟". انها اشكالية نلمحها في مؤلفات برجسون فهو ينكر التسلسل المنطقي في الفلسفة وقرر أن الفلسفة ليست إلا السير مع خطوط الوقائع ومع ذلك فبرجسون فيلسوف ومهمة الفيلسوف ربط الوقائع والتوحيد بينها ورد المتعدد الى الواحد؛ أي إلى المطلق. وفي كتابه "المذهب في فلسفة برجسون"؛ تناول مراد وهبة الكثير من هذه الأفكار الفلسفية العميقة والتي تبدو معقدة مثل قوله: "أظن ان برجسون قد وجد ضالته المنشودة في فكرة الزمان.. فالزمان عنده زمانان؛ أحدهما زمان مثل المكان بمعنى أن كل شيء في الزمان محدد ومعين مثلما يحدث في المكان، أما الزمان الآخر فهو الزمان الحي وهو زمان جواني أي داخل الإنسان وله فاعلية تكمن في مناهضتها لفكرة الحتمية". وفي عام 1984 صدر كتاب هز الأسرة الدولية العلمية والفلسفية- كما يقول الدكتور مراد وهبة- عنوانه "بزوغ النظام من الفوضى"؛ وهو من تأليف العالم الفيزيائي ايليا بريجوجينح الحاصل على جائزة نوبل عام 1977 ومواطنته الفيلسوفة وعالمة الفيزياء ايزابيلا ستينجرز، فيما كانت الفكرة المحورية للكتاب هي التفرقة بين الأنساق المغلقة والأنساق المفتوحة، أو "الأنسقة المغلقة والأنسقة المفتوحة"، بالتعبير اللغوي الفلسفي الدقيق للدكتور مراد وهبة. والفارق بين الأنساق المغلقة والأنساق المفتوحة يكمن في النظرة للزمان، "فالأنسقة المغلقة لا تفرق بين الحاضر والماضي والمستقبل فهي كلها حاضرة ومتكررة؛ بينما الأنسقة المفتوحة فتخلو من التكرار كما تخلو من العودة لنقطة البداية ومن ثم تنكر مقولة ان كل ما حدث في الماضي سيتكرر حدوثه في المستقبل". والنسق المفتوح الذي انحاز له فارس الحداثة صادق جلال العظم يعني القابلية للديمقراطية الحقة والتعدد والتنوع الذي يثري المجتمعات خلافا للنسق المغلق حيث الأفكار الجاهزة وجمود التطور ووأد الخيال واستمرار الممارسات القديمة. كان صادق جلال العظم في الواقع مقاوما شرسا لليأس والاحباط، ورأى أن الهزيمة ليست قدر مجتمعات بعينها ولا الموت يتقصد بشرا بعينهم ولا العالم يعاند شعوبا بعينها.. انما هي "لعنة النسق المغلق".. فهل حان الوقت لتبني فلسفة النسق المفتوح ومصالحة الحداثة وكسر الحلقة المفرغة؟!