كنت في الخمسينيات من القرن الماضي مهموما بمفهوم النسق عند كل من الفيلسوف الألماني كانط والفيلسوف الفرنسي برجسون. والنسق عبارة عن الربط بين جملة أفكار ربطا عضويا بحيث لا يتيسر معه فصل فكرة عن الأفكار الباقية إلا بالقضاء علي النسق كله. وكان الرأي عندي أن الغاية من هذا الربط العضوي الصعود نحو المطلق. ومع تحقيق هذه الغاية ينغلق النسق ويصبح غير قابل للتطور. وكان رأيي أن الفيلسوف الألماني كانط علي وعي بأنه يريد تأسيس نسق مغلق. وأصدرت كتابا بهذا المعني عنوانه المذهب عند كانط. ومع ذلك فقد فوجئت بأن الفيلسوف الفرنسي برجسون كان قد ارتأي أن النسق يمكن أن يكون مفتوحا, وحينها كنت قد ارتأيت أن ثمة تناقضا في القول بأن النسق يمكن أن يكون مفتوحا. فأنت عندما تنتهي من قراءة مؤلفات برجسون فانك تسأل نفسك: ما هو نسق برجسون في الفلسفة؟ وأين هو؟ وفي كتابه الضحك يتساءل برجسون ثم يجيب. يتساءل: ماذا يضحكنا؟ فيجيب: يضحكنا أن نجد أنفسنا داخل نسق جاهز. ويضحكنا قبل كل شئ أن يكون المرء نسقا يمكن لآخرين أن يدخلوا فيه بسهولة, أي أن يتجمد الانسان في نسق. ثم هو يزيد فيقول: إن الفكر يتصلب فيعند, ومن يعند ينتهي إلي أن يلوي الأشياء وفقا لفكره بدلا من أن ينظم فكره وفقا للأشياء. وإذا كان ذلك كذلك فهل يقبل برجسون أن يصوغ أفكاره دون أن يدخلها في نسق ويكون بذلك قد أهمل العنصر الأساسي في تأسيس فلسفته؟ ونحن نلمح هذه الاشكالية ونحن نقرأ مؤلفاته. فهو ينكر التسلسل المنطقي في الفلسفة, ويقرر أن الفلسفة ليست إلا السير مع خطوط الوقائع. ومع ذلك فبرجسون فيلسوف, ومهمة الفيلسوف ربط الوقائع والتوحيد بينها, ورد المتعدد إلي الواحد, أي إلي المطلق. وأظن أن برجسون قد وجد ضالته المنشودة في فكرة الزمان. فالزمان, عنده, زمانان. أحدهما زمان مثل المكان بمعني أن كل شئ في الزمان محدد ومعين مثلما يحدث في المكان. أما الزمان الآخر فهو الزمان الحي وهو زمان جواني, أي في داخل الانسان وله فاعلية, وفاعليته تكمن في أنه يمنعك من التنبؤ, أي يمنعك من القول بأن كل شئ يحدث فهو يحدث بالضرورة, أي بطريقة حتمية. وقد وردت كل هذه الأفكار عن برجسون في كتابي المعنون المذهب في فلسفة برجسون. وفي عام1984 صدر كتاب هز الأسرة الدولية العلمية والفلسفية لأنه كان ينبئ بمولد علم جديد اسمه الفوضي. الكتاب عنوانه الرئيسي بزوغ النظام عن الفوضي وعنوانه الفرعي حوار جديد بين الانسان والطبيعة. والكتاب من تأليف عالم فيزيائي وكيميائي بلجيكي من أصل روسي وأسرة يهودية اسمه إيليا بريجوجين حائز علي جائزة نوبل في عام.1977 شاركته في التأليف إيزابلا ستنجرز فيلسوفة بلجيكية وعالمة في الفيزياء ومن أسرة يهودية. فوجئت عند قراءة ذلك الكتاب أن فكرته المحورية التفرقة بين الأنسقة المغلقة والأنسقة المفتوحة, وأن الفارق بينهما يكمن في الرؤية إلي الزمان. الأنسقة المغلقة لا تفرق بين آنات الزمان الثلاثة: الحاضر والماضي والمستقبل, فهي كلها حاضرة ومتكررة ولا جديد. أما الأنسقة المفتوحة فتخلو من التكرار كما تخلو من العودة إلي نقطة البداية, ومن ثم تنكر الحتمية التي تزعم أن كل ما حدث في الماضي سيتكرر حدوثه في المستقبل. وميكانيكا نيوتن نموذج علي الأنسقة المغلقة التي ظلت متحكمة في مسار العلم لمدة ثلاثة قرون. ومع بداية القرن العشرين نشأت ثورتان: نظرية الكوانتم عند بلانك ونظرية النسبية عند أينشتين, وبفضلهما حل اللايقين محل اليقين والفوضي محل الحتمية المولدة للنظام. ومن هنا نشأت الثورة الثالثة التي فجرها بروجوجين وهي الفوضي ولكن بشرط أن يكون مفهوما أن الفوضي مولدة للنظام. واذا كانت الفوضي رمزا علي الصدفة والنظام رمزا علي الضرورة اذن ثمة تداخل بين الصدفة والضرورة, إلا أنه تداخل مدمر لمبدأ العلية الذي ورثناه من فلسفة أرسطو التي تحكمت في مسار العلم لأكثر من ألفي عام. وهو مبدأ يعني أن لكل نتيجة سببا وبالتالي فانه يقف ضد الصدفة. وهنا ارتعبت البشرية من تدميرذلك المبدأ, بل المفارقة هنا أن أينشتين نفسه الذي كانت نظريته تشكك في مبدأ العلية قد ارتعب هو الآخر وقال ساخرا من خصوم ذلك المبدأ إن الله لا يلعب النرد أي أن الله ينكر الصدفة. وقد قيل عن هذه المفارقة أن أينشتين كان يشعر بالعزلة بسبب وعيه بشيوع ظاهرة معاداة السامية, وأن من شأن القول بالصدفة فقدان الأمل في حتمية زوال هذه الظاهرة. ومع ذلك فيمكن الرد علي هذا القول بأن غالبية علماء اليهود كانت منحازة إلي اللايقين وإلي اللاحتمية, وهي غالبية متحكمة في مسار العلم. ويبقي بعد ذلك سؤال مأساوي: اذا كانت الغالبية اليهودية متحكمة في مسارالعلم فالغالبية الفلسطينية متحكمة في ماذا؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة