تعانى الأمة تحديات كبيرة وأزمات متوالية هى بالأساس ناتجة عن آفات خطاب التشدد والتطرف المتلاعب بالمفاهيم اضطرابا وجهلا، وذلك نظرًا لما تمثله قضية المفاهيم من أهمية كبيرة فى العلوم وحياة الأمم، ولعل مفهوم «الجهاد» هو الأبرز فى ذلك، نظرًا لما يتعرض له هذا المفهوم النبيل من تشويه من أهل التطرف، حتى شاع أن الإسلام قد انتشر بالسيف، وأنه يدعو إلى الحرب وإلى العنف، وهى صورة مشبوهة لطالما سعى فى ترسيخها أعداء الإسلام مِن أنه دين همجى دموى غايته قهر الناس والفساد فى الأرض! لقد اختزلت جماعات التطرف والعنف مفهوم «الجهاد» فى القتال معتبرين أنه مقصود فى نفسه مع ترسيخهم المشبوه أن الأصل فى المعاملة بين المسلمين وغير المسلمين هى الحرب والقتل، مرددين فى تمويه أهدافهم الخبيثة جملة من الدعاوى المرجفة التى يخدعون بها الناس؛ كقولهم: «الجهاد الآن فريضة معطَّلة أو غائبة»، وترويجهم بأن «ما يقومون به من التفجيرات والأعمال الانتحارية هو بمثابة إحياء لفرض الجهاد الإسلامي». ويمكن تناول هذه القضية الخطيرة من خلال تحليل مفهوم «الجهاد» وواقعه اليوم، مع تمييزه عما يُلبَّس به من مفاهيم مثل: الإرهاب والإرجاف والحرابة والبغي، وما يشتبه فيه من مسائل. ف «الجهاد» مصطلح إسلامى له مفهومه الواسع؛ فهو يطلق على مجاهدة النفس والهوى والشيطان، ويطلق على قتال العدو الذى يُراد به دفعُ العدوان وردعُ الطغيان؛ لقوله تعالي: (وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)، وهذه هى الحالة المهيمنة على غزوات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فى أنها كانت تمثل حالة الدفاع عن الدولة الوليدة وعن مقوماتها التشريعية، وكان القتال غير مرغوب فيه فى نفوس المؤمنين، وما جاهدوا إلا لأجل هذه الغاية النبيلة، فيحكى لنا القرآن الكريم عن حال المسلمين وقت غزوة بدر كيف أن بعض النفوس وقتها كانت تميل إلى عدم المواجهة نظرا لما كان بهم من فقر ومن عدم قدرة على خوض تلك الحرب فيقول جل شأنه: «وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ». هذا كله فضلا عن أن أحكام الجهاد الشرعيَّة التى قررها الإسلام تتلخص فى أنه من فروض الكفايات التى لا يطالب بها الأفراد بل يعود أمر تنظيمها إلى اختصاص أولياء الأمور المدركين لوقائع الأحوال حربيًّا وسياسيًّا، والتى تراعى المآلات والمصالح والمفاسد المتعلقة بالاعتبارات الإقليمية والمعاهدات الدولية ومعرفة موازين القوى العالمية. وهذا وحده كفيل ببطلان دعاوى هؤلاء المغرضين ودحض مقولتهم الشائعة: «الجهاد معطل» فإن هذا الأمر عند المسلمين عبر التاريخ - أيضا- منظَّم بلا تعطيل أو تقصير؛ لأن قراره يحتاج إلى موازانات خاصة وضوابط لا بد وأن تُراعي؛ كالحفاظ على أمن البلاد ورعاياها، ومصالحها من جهة أخري، وقدرتها على المواجهة وتحمل خيار الحرب من جهة ثالثة، وليتم الأمر بشكل رسمى محدد المعالم يُؤمَن فيه على المشاركين فى ذلك من أن يقعوا فريسة لجهات مشبوهة تستغل عواطفهم وتوظف حماسهم لخدمة أهداف خارجية باسم الجهاد من جهة أخيرة. كذلك لم تُقَصِّر بلاد المسلمين فى القيام بهذا الواجب الوطنى والفرض الشرعى لأنهم لا يزالون يعدون الجيوش القوية مع حماية الحدود وتأمين الثغور حسب الاستطاعة، ولا يخفى أن إعداد «قوة الردع» أهم من ممارسة القتال نفسه، لأن فيها حقنًا للدماء، وقد أشار القرآن الكريم إليها فى قوله تعالي:(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ)[الأنفال: 60]. إن هذه حقائق ظاهرة للعيان تكشف عن مدى اختزال مفهوم الجهاد تحت دعاوى فارغة يتخذها أهل التطرف مطية فى سوء فهمهم للإسلام، مع أن الإسلام منهجًا وشرعًا وحضارة بعيد عن أفعالهم المنكرة وإفسادهم فى الأرض الذى يريدون إلصاقه بالجهاد، والجهاد منه بريء، بل هذا بَغْيٌ وفساد فى الأرض بغير الحق، وماهية الفساد لا تقبل أن تكون صلاحًا يومًا ما؛ لأن الله لا يصلح عمل المفسدين. لمزيد من مقالات د. شوقى علام مفتى الجمهورية