كل من قرأ الوثيقة الجديدة التى أعلنتها حركة حماس، يشعر بأنها كُتبت بعناية لترضى جميع الأطراف والألوان السياسية، ويبدو أنها اتبعت الطريقة التقليدية التى كُتب بها التقرير البريطانى الأخير عن نشاط الإخوان، فالدول المؤيدة للجماعة والمتعاطفون معها وجدوه مناسبا من لندن، والدول الرافضة لها وتعتبرها منظمة إرهابية وجدوا فيه ما يشفى غليلهم. لذلك عندما أعلن خالد مشعل تقريره الاثنين الماضي، أجمع كثيرون على أنه يتسم بصياغة مراوغة، وقدّمت التفسيرات الجانبية لمشعل المزيد من التفاصيل التى تؤكد هذا الاستنتاج، وكان لجوء الرجل إلى خطاب إنشائى وسيلته الوحيدة للقفز فوق الأسئلة الحرجة التى لم يجد لها إجابات قاطعة ترضى أصحابها. بالفعل حفلت غالبية البنود ال 42 بازدواجية لافتة، فالوثيقة الجديدة اعترفت بحدود 4 يونيو 1967 لكن لم تقر صراحة بإسرائيل، وتضمنت تنويها لأهمية العمل السياسى لكن حافظت على سلاح المقاومة، وتغاضت عن التمسك بانتماء حماس للإخوان المسلمين، كما هو موجود فى الوثيقة الأولى التى صدرت عام 1988، لكن شددت على التزام الحركة بالإطار الفكرى للجماعة، وهكذا ثمة سلسلة طويلة من المناورات السياسية والتلاعب بالألفاظ، جعلت كل جهة تجد ما تريده فى الوثيقة، التى لا تعنى أصلا التخلى عن الوثيقة السابقة، بل هى فى النهاية مكملة لها، بشكل مباشر أو غير مباشر. دوائر عديدة تعرف ألاعيب حماس وتفهمها ضغطت باتجاه أن تكون الوثيقة نقلة نوعية حقيقية، وهو ما يفسر تأخير إعلانها، فمنذ بداية العام الحالى والحديث لم ينقطع عن وثيقة يتم إعدادها، وتركت الحركة القوى المعنية والجهات المهتمة تضرب أخماسا فى أسداس، بانتظار مولود قد يؤثر فى شكل الخريطة الفلسطينية، ويجعل من حماس حركة تتعامل مع المتغيرات بقدر كبير من الانسجام. ولأن المسألة صعبة، استغرق إعداد الوثيقة وقتا طويلا، ربما كان مقصودا منه أن تتزايد بورصة التكهنات والتخمينات والتوقعات، لجس النبض ومعرفة الحدود النهائية التى يمكن أن تبلغها الحركة، وربما جرى التمهل لشدة الخلافات الداخلية، وارتفاع درجة الشد والجذب الذى طال بعض البنود الرئيسية، فضلا عن وجود تيارين متنازعين، أحدهما بالغ فى المرونة، والآخر بالغ فى التشدد، لذلك جاءت الوثيقة الجديدة وسطا بينهما ويجد فيها كل طرف ما يريده، من براجماتية وتطرف كبيرين. بالطبع لن تستطيع الحركة خداع العالم، الذى كان ينتظر خطوة تتماشى أكثر مع التطورات الإقليمية والدولية، وتأخذ فى حسبانها توازنات القوى التى ليست فى مصلحة العرب والفلسطينيين، بل وكل القوى التى تتبنى مواقف أيديولوجية على شاكلة حماس، لكن الحركة كانت متسقة مع تاريخها وجذورها الإخوانية، ولم تخرج الوثيقة بعيدا عن الخبرات التى تراكمت لديها، وتؤكد أنها حركة نفعية تماما، تملك قدرة عجيبة على التلون مكنتها من التأقلم مع أجواء غاية فى التعقيد طوال السنوات الماضية، وساعدتها على الجمع بين متناقضات يصعب أن تلتقى بسهولة. القوى التى راقبت الخطوات الأولى للوثيقة وحتى إعلانها من الدوحة، تعرف جيدا أن بنودها حافلة بالمراوغات اللفظية، لترضى الأصدقاء والخصوم معا، وبالتالى من الصعوبة أن تتمكن الحركة من خداع هؤلاء وهؤلاء، وقريبا سوف تكون مضطرة إلى اتخاذ مواقف واضحة ومحددة فى قضايا شائكة، لأن سياسة الإمساك بالعصا من منتصفها لن تكون صالحة، فثمة عملية فرز جارية على قدم وساق فى المنطقة، شعارها مع التيار الإسلامى يقول « من ليس معى فهو ضدى »، بمعنى أنه لم يعد من المقبول أن ترتمى الحركة فى أحضان دولة وتتلقى دعما من أخري، أو ترفع سلاح المقاومة فى وجه إسرائيل ردا على انتهاكاتها، وتقوم بالتفاوض معها سرا. العالم ينتظر الحكم النهائى على الأفعال، من خلال الطريقة التى ستتصرف بموجبها حماس مع بعض الاستحقاقات السياسية، وفى مقدمتها عملية التسوية التى قد تشهد زخما خلال المرحلة المقبلة، ولعل الزيارة التى بدأها الرئيس الفلسطينى محمود عباس لواشنطن أمس الأربعاء، تترتب عليها تداعيات سياسية، لأنها جاءت عقب لقاءات وحوارات ومناقشات متعددة أجرتها الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس الجديد دونالد ترامب مع زعماء ومسئولين مؤثرين فى ملف التسوية بالمنطقة. لكى تكون تصرفات حماس مواكبة لهذه التطورات، من الضرورى أن تمتلك توجهات وتصورات متناغمة، تجعل العالم يثق بها، وتساعدها لتكون رقما رئيسيا فى معادلة التسوية الحرجة، وهناك أربعة محددات رئيسية يمكن أن تكون اختبارا لنيات الحركة، وهى دليل أيضا يكشف حجم النضج الذى وصلت إليه. الأول: الوحدة الشاملة، وتتمثل فى تقارب الرؤية السياسية ولم شمل الأراضى الفلسطينية وسرعة الإعلان عن حكومة وطنية، فالطريقة التى تدير بها حماس علاقتها مع حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية عموما، تشى بالتباعد والرغبة فى استمرار الفواصل فى ملفات مصيرية، فعندما يحين موعد الجلوس على طاولة المفاوضات من الواجب أن تكون القوى الفلسطينية، وفى قلبها حماس، متفاهمة حول الأهداف والطموحات وحجم التنازلات، لأن إسرائيل حققت مكاسب كبيرة من وراء الخصام والتراشق وتصفية الحسابات البينية بين الحركات الفلسطينية. ناهيك عن أهمية الشروع فى إنهاء حالة العزلة التى فرضتها حماس على قطاع غزة، والتعامل معه كأنه دويلة خاصة بها، وهو ما منح إسرائيل فرصة استثمار هذا الوضع الشاذ وقضم المزيد من الأراضى فى الضفة الغربية وزرعها بالمستوطنات، كما أن الوحدة تفرمل الاتجاه الرامى إلى تكريس التعامل مع غزة باعتبارها أرضا منفصلة، وأول اختبار تتعرض له حماس هو مدى قدرتها على المشاركة فى حكومة وحدة وطنية ونجاحها. الثاني: التخلى عن الشعارات الأيديولوجية، والنزول إلى أرض الواقع، لأن مرور الوقت يضر بالقضية الفلسطينية، التى تراجعت من إزالة الاحتلال الإسرائيلى إلى القبول بدولة مبهمة على حدود 1967، ومع ذلك تتنصل تل أبيب من هذا المطلب، وترفض التجاوب مع قرارات الشرعية الدولية، وتجد تأييدا من جانب قوى مختلفة. الثالث: الابتعاد عن التوظيف السياسى والإعلامى للحركة من جانب كثير من الدول، بعد أن تحولت حماس إلى تابع لعدد منها، الأمر الذى أساء للحركة وأرخى بظلال سلبية على القضية برمتها، لأنها أصبحت كرة تتلاعب بها جهات متباينة، كل يقذفها ناحية المربع الذى يحقق أهدافه. الرابع: التمسك بالغطاء العربى الذى يملك رؤية واضحة للتسوية، كما أنه البوابة الصحيحة لاسترداد الحقوق المنهوبة، والقوى الرئيسية فيه، مصر تحديدا، لديها جملة من الثوابت لم تتزحزح، وصمدت أمام العواصف التى حاولت سرقة القضية الفلسطينية وإبعادها عن مسارها العربي. لمزيد من مقالات محمد أبوالفضل