«الانسان لا يدري ما يقوله العصفور فوق أطراف الأغصان، ولا الجداول على الحصباء، ولا الأمواج اذ تأتي الشاطئ ببطء وهدوء» يكتب جبران خليل جبران مضيفا: «ولا يفقه ما يحكيه المطر اذ يتساقط منهملا على أوراق الأشجار، أو عندما يطرق بأنامله اللطيفة بلور نافذته، ولا يفهم ما يقوله النسيم لزهور الحقل، ولكنه يشعر بأن قلبه يفقه ويفهم مفاد جميع هذه الأصوات فيهتز لها، تارة بعوامل الطرب، ويتنهد طورا بفواعل الأسى والكآبة» .................. كلمات جبران جاءت في كتابه «الموسيقى» الصادر عام 1905. وقد كتبه جبران بالعربية وهو في ال 22 من عمره. الشاعر الفيلسوف والفنان الآتي من لبنان والمنطلق من أمريكا في تأملاته للأنغام والألحان قال أيضا: «الموسيقى ترافق أرواحنا وتجتاز معنا مراحل الحياة، تشاطرنا الأزدراء والأفراح وتساهمنا السراء والضراء وتقوم كالشاهد في أيام مسرتنا وكقريب شفوق في أيام شقائنا». ولأن جبران كغيره من عشاق الابداع تأمل تاريخ الانسان مع الموسيقى أو رحلة الموسيقى في حياة الانسان فقال:»عبدها الكلدانيون والمصريون كإله عظيم يسجد له ويمجد. واعتقد الفرس والهنود بكونها روح الله بين البشر. وقال شاعر فارسي ما معناه : «ان الموسيقى كانت حورية في سماء الآلهة تعشقت آدميا وهبطت نحوه من العلو فغضب الآلهة اذ علموا، وبعثوا وراءها ريحا شديدا نثرتها في الجو وبعثرتها في زوايا الدنيا، ولم تمت نفسها قط بل هي حية تقطن ذات البشر». وجبران هذا القادم من الشرق ذكرنا أيضا: «.. وقال حكيم هندي :»ان عذوبة الألحان توطد آمالي بوجود أبدية جميلة» ولا شك ان الانسان أينما كان بالطبع يقف أمام الموسيقى مبهورا ومتأملا وفرحا وسعيدا . سواء كان مستمعا أو عازفا لها. عازف البيانو الشهير رمزي يسى في حوار له نشر أخيرا يذكر: «.. الموسيقى موقف، وقد تعلمت ذلك فى روسيا عندما لعبت مقطوعة أمام معلمى كنت أظن أننى أجدتها للغاية والتزمت حرفيا بالنوتة ففوجئت بموقف معلمى الغاضب، حيث قال لى هذا النوع من العزف يمكن لأى شخص أن يقدمه، فأنا لم أشعر بموقفك ورأيك وأنت تعزف، ومن يومها تعلمت أن لكل موسيقى بصمة وموقفا لابد أن يظهر وهو يعزف، وهذا ليس معناه عدم الالتزام بالنوتة، إنما طريقة الأداء لابد أن تعكس شخصيتك» و«لماذا علينا أن نمتلك بيانو؟» هكذا تساءل الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا مضيفا «الأفضل هو أن تكون لدينا أذنان .. وأن نحب الطبيعة». وبالطبع النغمة الحلوة لا تعرف الغربة أو الوحدة انها «محفورة» و«منقوشة» في ذاكرتنا و «بتدندن» في بالنا، حاضرة دائما في حياتنا. ومعها تتمايل رءوسنا وتتحرك أجسادنا. والموسيقى تأتي في بالي مع كل يوم 17 مارس تحديدا. يوم ميلاد سيد النغم والطرب سيد درويش. ابن الاسكندرية العبقرية والظاهرة الذي أمتعنا ولا يزال يمتعنا بما لحنه وغناه وبما تركه في نفوسنا من بصمة مصرية موسيقية محلقة بخيالنا ومبهجة لأرواحنا .. توطد آمالنا بوجود أبدية جميلة. «ظاهرة سيد درويش ليست ظاهرة فذة، أو منفصلة ، أو طارئة كالرعد في سماء صافية» هكذا يكتب يحيي حقي ويضيف: «هي في الموسيقى قرين ظاهرة «مختار» في النحت، وظاهرة «بيرم» في الأدب الشعبي، وظاهرة المدرسة الحديثة في القصة، وكلها ظواهر متماثلة نابعة من ثورة سنة 1919، التي فجرت مطلب الكشف عن وجه مصر، عن وجه الشعب، مطلب البحث عن أدب وفن يختص بهما هذا الشعب ويعبران عنه». ويجب التذكير هنا أن سيد درويش توفى وهو في سن ال31 من عمره. أما محمود مختار فقد تركنا وهو في ال43 من عمره. عاشق الكلمة وفيلسوف «خليها على الله» العظيم يحيي حقي تأمل عبقرية سيد درويش من خلال سلسلة مقالات بدأ في كتابتها بصحيفة «التعاون» في نهاية عام 1970. تم تجميعها فيما بعد تحت عنوان «الكاريكاتير في موسيقى سيد درويش». وهي بالطبع جديرة بالقراءة كاملة للتعرف على زوايا جديدة لتأمل عبقرية سيد درويش في التأليف الموسيقى والأداء الغنائي .. وأيضا التمثيل أو التجسيد الكاريكاتيري (اذا جاز التعبير) للمشاعر والمواقف التي تجلت في أغاني سيد درويش الخالدة.ويشرح حقي توصيفه هذا بالتفاصيل من خلال التقاء وتقابل سيد درويش ونجيب الريحاني وبديع خيري .. على مسرح كشكش بك. وما أضفاه سيد درويش من ظرف وخفة دم ومرح روحي من خلال ألحانه وأدائه .. وكما يصف حقي«انه لم يقدم للشعب نصوصا يتغنى بها فحسب بل عمر قلوب أبنائه جميعا ببهجة مشعشعة بعد أن انتشرت هذه الأغاني الجماعية بينهم كالحريق وأخذوا يرددونها باستمتاع كبير.» .................. «بهجة مشعشعة».. ما أجمله من تعبير وما أحلاه من شعور.. [email protected]