تستوقفنى كثيرا تجارب الأمم والدول فى النهوض، واجتياز الشدائد والتغلب عليها، واتساع المقدرة على إيجاد المخارج والحلول لأعقد الأزمات، وامتلاك زمام أمورها، والانطلاق فى مضمار التمدن والتحضر، سواء أزمة الكساد الكبير أو الثلاثاء الأسود فى أمريكا سنة 1929م والذى امتد حتى سنة 1939م، ووقائعه وتفاصيله فى غاية العجب، وسياسات الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت فى حلها، أو طريقة سنغافورة فى صناعة طفرة، ومذكرات رئيس وزرائها لى كوان يو: (قصة سنغافورة من العالم الثالث إلى العالم الأول)، وقد صدر فى جزءين، أو تجربة ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، أو تجربتنا كمصريين أيام محمد على باشا وقضية بناء الدولة الحديثة فى مجالات الطب والتصنيع والتعليم، وأجد فى نفسى شغفا بالغا بدراسة هذه التجارب والاستفادة منها، وأرى من وراء كل تلك التجارب -على اختلاف أجناسها وأعراقها وألسن أصحابها- إنسانا، واسع الحيلة، صاحب حنكة، لا يعييه شيء، ولا ينهزم أمام أزمة مهما كانت صعوبتها وتعقيدها، وتدفعه من داخله طاقة هائلة على أن يتحدى نفسه، ويثق بذاته ومقدرته، ويستنفر عقله لتفكيك أزمته، ويسلك إلى ذلك طرقا كثيرة مسدودة، فلا ينهزم أمامها، ولا يتوقف عندها، بل ينطلق منها إلى حالة جديدة من الفكر والتحدى للذات، وهو فى كل ذلك لا يهمد، ولا ينطفئ، ولا يقف عاجزا، ما دام ذلك الينبوع الداخلى يتدفق فى باطنه بالإرادة. وربما اختلفت تلك التجارب الإنسانية فى المظاهر والأشكال والهيئات والإجراءات والمداخل، لكنها تظل جميعا نتاج عقل إنسانى واسع الحيلة، مدفوع بطاقة تتدفق من داخله، وتحميه من كل عوامل اليأس والإحباط، لأن اليأس إذا استولى عليه نضب التدفق الآتى من باطنه، فيسرى الجفاف والتصحر فى روحه، وتظلم نفسه، ويضيق صدره، وتضيق منافذ العقل تماما، ويتوقف عن الحيوية والتقافز والحيلة الواسعة، ويعتريه مرض يجعله عاجزا مشلولا. إنها قصة إنسانية فى المقام الأول قبل أن تكون تكنولوجية أو اقتصادية أو فلسفية أو إجرائية، وقبل أن تهدر تروس الماكينات، وآلات المصانع ومداخنها، وقبل أن تنشط خطوط الإنتاج، وسياسات إدارة الأموال وإجراءاتها. وهى تجربة إنسانية ترجع فى المقام الأول إلى كيفية حماية هذا الإنسان على مستواه الوجداني، وإحاطته بالعوامل التى تبقى فيه الحيوية والأمل، وتدفعه إلى الاستنفار والتحدي، وتجعله يسخر من أزماته، ويدرك أنه أكبر منها، بدلا من أن يغرق فيها، ثم نظل بعد ذلك زمنا ونحن نجهد ونحاول إخراجه من حالة يأسه التى تجعله ينظر إلى كل اقتراح يقدم إليه بعين العزوف وفقدان الأمل، وعدم تصديق إمكانية أن يكون هو فاعلا وناجحا، ويزداد غوصا فى مستنقع نفسه الذى يشبه الرمال المتحركة. وتلك التجارب جميعا ترجع فى نظرى إلى بذرة واحدة، وهى أن إنسانا ما، فى بقعة من بقاع الأرض، أو دولة من الدول، أو شعب من الشعوب، أو فترة ما من فترات الزمن، قد تعقدت من حوله الأزمات وتشابكت، حتى صارت تشبه الطلاسم التى لا تقبل الحل، لكنه هو قد اتخذ فى أعماق نفسه قرارا صارما ليس فيه ذرة شك ولا ريبة، بأنه قادر، وبأنه ناجح، وبأنه أكبر بكثير من كل أزماته، تماما كما فعل الإنسان المصرى العظيم عقب انكسارنا فى سنة 1967م، حيث كانت كل العوامل المحيطة به تؤكد تماما استحالة مقدرته على صنع شيء، لكنه بقى هناك فى أعماق نفسه موقنا أنه أكبر من تلك الأزمة، وقادر على اختراقها، فصار يتحرك فى إجراءات بناء الجيش واستنزاف العدو، وليس عنده ذرة شك فى أنه قادر على تحقيق نجاح. وصناعة الثقة فى الذات هى مدار النجاح فى كل تلك التجارب، ومن بعدها تنفتح أبواب الفكر ومنافذ العقل لتفكيك الأزمة، وصناعة الحلول والإجراءات، ولعل من أهم الخصائص التى كانت تميز الإنسان المصرى عبر تاريخه هى ثقته فى ذاته، وإيمانه بقيمة وطنه، مما جعل تجربة عبر تاريخه نجاحا مستمرا لا ينقطع فى حماية هذا الوطن وتشغيل ثرواته وخيراته، وكانت هذه الثقة تسرى إلى وجدانه ووعيه بالتدريج من خلال عوامل كثيرة فى صناعته وتنشئته، يدرك فيها أنه إنسان عظيم وعريق، وأن وطنه هو مقصد الأمم، وأن العقول النابغة كانت تأتى إلى بلده لتتعلم وتستفيد. لمزيد من مقالات د.أسامة السيد الأزهرى;