ما زالت هناك دلالات كثيرة في انتصار أكتوبر، تشتد حاجتنا إلي رصدها، والتنقيب الجاد من خلالها عن جوهر الأصيل للإنسان المصري، الذي تراكمت عليه أطباق من الفقر والإجهاد النفسي، والتعقيد الاجتماعي، والسلوكيات العليلة، والنفسية المتأزمة المكتئبة، فجعلت حقيقة شخصيته متوارية وراء كل هذه الحجب الكثيفة. وربما ظل الإنسان المصري يرزح تحت تلك الضغوط، حتي تضيق نفسه، ويظلم عقله، وتضيق الدنيا عليه بما رحبت، حتي تأتي لحظات فاصلة، يستنفر فيها طاقته لينفض عن نفسيته كل تلك الأكوام من الهموم. ومثال ذلك في حرب أكتوبر ما ذكره الفريق سعد الدين الشاذلي في مذكراته، من أنه عندما تولي رئاسة أركان القوات المسلحة، وجد أننا لكي نعيد بناء الجيش المصري وتسليحه وتدريبه، للوصول فقط إلي حالة التساوي مع قوات العدو، مما يتيح لنا أخذ القرار بخوض الحرب فإن هذا المجهود الشاق يحتاج منا إلي ثلاثين سنة، فقط للوصول إلي حالة التساوي، فضلا عن التفوق الذي يجعل النصر في الحرب معقولا أو راجحا، في حين أن الحاجة بالنسبة لوطننا العظيم وجيشنا العظيم كانت ملحة وماسة لخوض الحرب في مدة لا تزيد علي ثلاث أو أربع سنوات. وربما خرج الإنسان من هذه اللمحة بيأس هائل من إمكان تحقيق شيء، نظرا لضخامة التحدي، وعدم تصور إمكانية ضغط المهام والأعمال التي تستغرق ثلاثين سنة في مدة قياسية لا تزيد علي ثلاث سنوات، ويكفي هذا الحاجز النفسي وحده لتحطيم أي بارقة أمل، تجعل الإنسان يقرر التحدي، ويستنفر طاقاته، ويشرع في العمل الشاق المهول. ولو كان الإنسان المصري يجري علي المعتاد في أمور الناس لازداد اكتئابا وإغراقا في يأسه، ولانصرف تماما عن أن يأخذ القرار بتحدي نفسه وظروفه واقتصاده المتعثر، ومن هنا يبدأ انهزام الإنسان أمام نفسه، وهذه هوة وفجوة نفسية يصعب الخروج منها إذا غرق فيها. لكن الذي حدث علي أرض الواقع، وظهر فيه المعدن الأصيل الكامن للإنسان المصري هو أنه قبل التحدي، واتخذ القرار، وانتصر بداخل نفسه قبل أن ينتصر في ميدان المعركة، وأدرك مقدار التحدي المهول، لكنه أدرك أن همته وطاقته فوق حجم التحدي، رغم شدة فقر إمكانياته. وكانت النتيجة أن جيشنا العظيم قد خاض معركة إعادة البناء، وقرر خوض المعركة، وبذل علي مدي سنوات جهوده الخارقة لإعادة التأهيل والتسليح والتدريب والتخطيط، ثم خاض أمورا صعبة من التخطيط، وكيفية الحسم، واختراق تحصينات العدو العسكرية، واختراق دعايته المكثفة التي تريد أن يصدق الإنسان المصري عن نفسه أنه عاجز ولا يقوي علي اتخاذ القرار وخوض المعركة. وأكمل الفريق سعد الشاذلي كلامه أن النتيجة الواقعية التي تحققت علي الأرض هو التمكن من اخترق الحواجز النفسية، واتخاذ القرار بصناعة النصر، فتمكن هذا الإنسان النبيل من اختصار جهود الثلاثين سنوات في ثلاث سنوات. والمشهد الذي أستدعيه اليوم هو أن الإنسان المصري قد دخل خلال السنوات الخمس الماضية في حالة مزمنة من الكآبة، والإحباط، واليأس، والعزوف، وغرق في أزمته النفسية المزمنة، ورأي مقدار الجهود المهولة المطلوبة منه لإعادة بناء الوطن وتشغيل ثرواته واجتياز أزمته، فاستعظم حجمها، وزادته شعورا بالعجز وعدم القدرة علي النجاح، وكلما نظر إلي المتاح بين يده من الإمكانيات ازداد شعورا باليأس، لأن عنصر النجاح في الحقيقة لا ترجع إلي قلة الإمكانات ولا إلي كثرتها، بل في مقدرة الإنسان علي البقاء في حالة عالية من اللياقة النفسية تجعله قادرا علي أن يأخذ القرار بالاستنفار وتحدي الأزمة. والأمم المحيطة بنا عبرت علي أزمات أشد فداحة بكثير من أزماتنا، خصوصا حالة الألمان واليابانيين بعد الحرب العالمية الثانية، وقد خرجت كلتاهما من الحرب مدمرة ماديا ومعنويا، وقد دمرت مدنها ومرافقها ومبانيها ومؤسساتها، وقتل منها مئات الألوف، وتركت الحرب من ورائها مئات الألوف من المصابين والمشوهين وذوي العاهات، وانتهكت أرضها وتاريخها، وانتهكت ثقة الإنسان هناك في ذاته، وثقته في مقدرته علي اختراق الأزمة. ورغم هذا فقد كان المعول علي مقدرة هذا الإنسان في أن يتجاوز ذلك كله، وأن يستنفر نفسه لاختصار جهود جبارة تحتاج إلي عشرات السنين، حتي يقفز لتحقيقها في سنوات معدودة، ولاشك في أن هناك أجيالا قد طحنت تماما في مرحلة إعادة التأسيس، لكنها تركت الراحة للأجيال التالية لها. إنني أتصور أن شعب مصر العظيم وجيشه العظيم ومؤسساته العريقة في حالة شديدة الشبه بحالتهم في الفترة السابقة علي حرب أكتوبر المجيدة، وأن الجهود الجبارة التي تحتاج إلي عقود وسنوات من العرق والتعب والمعاناة والسهر لابد من ضغطها واختصارها وإنجازها في سنوات معدودة. والقضية القومية التي لابد من أن نتضافر علي العمل فيها، هي إعادة نفض التراب عن هذا الهيكل العريق لنفسية الإنسان المصري، وإعادة صناعة الشخصية الوطنية المتماسكة، والثابتة نفسيا، والقادرة علي اجتياز كل عوامل الكآبة والفقر، وهي قضية هذا العام وأعوام قادمة، وتحتاج من الأزهر والأوقاف، ووزارة التعليم، ووزارة الشباب، والتليفزيون المصري، وقيادات القنوات الفضائية الخاصة، وكتابنا الكبار، الأمناء علي القلم، أن يجعلوا هذه القضية محور حديثهم، وأنشطتهم، وندواتهم، وأن تكون هي الهم العظيم الذي يتكبدون لأجله العرق والسهر، حتي تتدفق الدماء الجديدة إلي همة الإنسان المصري ووجدانه الظامئ المتألم. وأنا شديد الثقة في هذا الإنسان العظيم، وفي مقدرته الخارقة علي اجتياز الأزمة، وعلي الانتصار داخل نفسه قبل أن ينتصر علي تحدياته، وسلام علي الصادقين.