الإنسان في حقيقته أمل وطموح، وهمة وعزيمة، وإرادة حرة، وعقل رحيب واسع الأفق، شديد الشغف بالمعرفة، مُنَزَّه عن الغل والأحقاد الكراهية، لأن هذه المعاني النفسية تسبب له العمي والاندفاع، وهو شديد الاعتزاز بذاته، شديد الثقة بنفسه، وبمقدرته علي الإنجاز، لا تستطيع الأزمات ولا الصدمات أن تنال منه، ولا تقتدر علي كسر إرادته، يطفو كلما ازدحمت أمواج الأحداث وتشابكت الأزمات، فلا تَغْمُره، ولا تَجْرِفه، ولا يغرق فيها، قادر علي أن يسبق غيره في اجتياز الأزمة، ويستطيع أن يري بصيص النور والمخارج والحلول وراء الأزمات المطبقة، والأحداث العصيبة، وتشابكها وتزاحمها، في الوقت الذي ينشغل فيه أكثر الناس بتفاصيل الأزمات، وشئون الأشخاص، والجزئيات والعوارض والشكليات والمظاهر، فيغرقون فيها، ويتوقفون عندها، ولا يرون ما وراءها من مخارج. إنه الإنسان الذي تضافرت مؤسسات المجتمع علي صناعته وتكوينه، وهيأت له أسباب ذلك كله، وهو الإنسان الذي اكتشفت مؤسسات التعليم مواهبه، وعملت علي تنميتها وصقلها وتطويرها، وهيأت له أسباب البحث العلمي وأدوات البحث العلمي، ليجد منفذا للإبداع والابتكار، وتلبية نداء الموهبة الشديد الإلحاح علي نفسيته وعقله وخاطره. وهو الإنسان الذي تضافرت مؤسسات التعليم والإعلام والتدين والبحث العلمي والاقتصاد والاجتماع علي حشد عوامل صناعته، لا أن تتنازعه، وتتجاذبه، وتحيره، وتشتت عقله، وتملأ نفسه إحباطا، ويأسا. وهو الإنسان الحر النبيل الخلوق، الذي ارتفع عن كاهله كل معني للقهر أو الاستعباد أو الامتهان أو الاستخفاف به، أو الالتفاف علي وعيه وعقله، أو عدم احترام ذكائه وفطنته، أو التعالي عليه، أو إرغامه. وهو الإنسان المثقف الواعي، الذي يتسامي ويترفع عن كل صور تسطيح المعرفة، أو الاتجاه بالمعرفة إلي التناحر والاستخفاف، أو أن تتلاطم به أمواج الأخبار والأحداث، مع قلة صبر منه علي اكتساب المعرفة وبنائها، واكتساب مهارات التوثيق والتحليل والاستنباط والبناء المتراكم والمقارنة والاستنتاج، تميدا للارتقاء إلي اكتساب الحكمة، وقد قال الله تعالي: (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (سورة البقرة، الآية 269). وكلما وُجِدتْ هذه المعاني وُجِدَ الإنسانُ الحيُّ، الصانعُ للحضارة، القادر علي الإنجاز، والقادر علي حفظ الوطن، وإنهاض المؤسسات، ويمكنه حينئذ العروج إلي تحقيق معني الإيمان والتدين الذي يصنع الحياة ويريد الإحياء، ويمكنه حينئذ أن يجد لكل مشكلة ألف حل، وكلما غابت هذه المعاني مات الإنسان وتحطم، وغرق في ذاته، وأظلمت الدنيا أمام بصره وبصيرته، وصار لشدة يأسه يستخرج لكل حل ألف مشكلة. وما من أمة صنعت حضارة أو أنجزت إلا وقد سعت في صناعة الإنسان علي هذا النحو، مهما اختلفت الاعتقادات والأفكار والأطروحات والقناعات والمباديء، لكن خريطة صناعة الإنسان واستنفار عقله وأنشطته وقدراته واحدة، ويظل التفاوت موجودا بعد ذلك في الامتداد والأثر البعيد لكل أطروحة أو فكرة أو حضارة، وأنها هل استطاعت أن تصنع الإنسان صناعة مستدامة مستمرة، أو أنها استنفرت الإنسان وجعلته يصنع طفرة هائلة لكنها مفعمة بالاصطدم والتكبر فحارب وطغي واستعمر ودمر. وقد صنعت مصر عبر تاريخها ذلك الإنسان العبقري، المبدع في العلوم الرياضية والهندسية، وفنون النحت والمعمار، والعلوم العسكرية والطبية، وكل ذلك نابع عنده من رؤية دينية عميقة، صانعة للحضارة، ويكفي قراءة كتاب الموتي عند الفراعنة لمشاهدة عمق يقينه في الله جل جلاله، وعمق يقينه في اليوم الآخر والبعث بعد الموت، وعمق استعداده لذلك البعث، وعمق صناعته للحضارة والإبداع، حتي تبقي شواهد العبقرية والعلم المحكم الرصين عندهم باقية عبر التاريخ إلي يومنا هذا. وكنت قد زرت قبل أسابيع قليلة معبد حتحور في قرية دندرة بمحافظة قنا بصعيد مصر، فتجولت برفقة بعض الأصدقاء وأمناء المعبد ومرشديه السياحيين، ووقفت طويلا أمام جدرانه وحجراته وسراديبه وأعمدته، وتملكني العجب العميق من الصبر الطويل علي نقش ذلك كله وتشييده، والأثر الواضح للإبداع في النسب الهندسية المحكمة، وشدة الإتقان حتي يبقي ذلك كله علي مدي ألوف من السنين، والأيام والسنوات والقرون تنطوي حوله، وتنشأ قري ومدن وتبيد وتزول، ويطرأ عليه ألوف من البشر ويموتون، ويبقي ذلك البناء الغريب، فانصرفت منه وظل يتردد في خاطري علي مدي ساعات وأيام بعدها قول الشاعر: لسنا وإن طابت أوائلنا يوما علي الأحساب نَتَّكِلُ نبني كما كانت أوائلنا تبني، ونفعل مثلما فعلوا وليس هذا تاريخا قد انقطع، بل هو سياق متصل إلي فترة قريبة جدا، أبدع فيها هذا الإنسان، وشيد، وتفنن، وابتكر، لأن مصر كانت قادرة علي صناعة الإنسان بهذه الطريقة، مع تفاوت في قوة بناء الإنسان وضعفها عبر مراحل التاريخ، لكن المصنع الذي يبني الشخصية بكل مظاهره وصوره وأشكاله كان مستمرا في العمل والإنتاج، ولعل العقود الأخيرة فقط هي التي تراجع فيها ذلك، أو توقفت بعض العوامل التي تصنع جوانب معينة من شخصيته. لكن!! هل يمكن إعادة تشغيل مصانع الشخصية، واجتياز هذه الفجوة، والعودة إلي ترميم ما تداعي أو تهدم منها، وأقول بكل ثقة: نعم، يمكن، ومازال هذا أمرا قريبا رغم أننا متأخرون فيه، لكنه مازال ممكنا، ومازالت التروس التي اعتراها الصدأ قابلة لإعادة التلميع والتشغيل والعمل، نعم إنه أمر ممكن، وسيحصل حتما، ومهما بلغ التعقيد، نعم نحن قادرون علي إزاحة جبال من الإحباط قد تراكمت علي همة الإنسان المصري عبر خمسين عاما مضت تقريبا، نعم نحن قادرون بإذن الله علي ضخ الحياة والإحياء في نفسية كل إنسان مصري أصيل نبيل محب لهذا الوطن، نعم نحن قادرون إن شاء الله علي تشييد كل جزء تهدم من نفسيته وشخصيته، ولا حدود لإيماننا بهذا الوطن العظيم، وبهذا الإنسان المصري الكريم، وبعناية الحق جل جلاله بهذا الوطن وأبنائه، وسلام علي الصادقين.