فكرة حتمية الصدام نشأت عند حسن البنا كما في كتابه (رسالة المؤتمر الخامس)، ثم وسعها وضخمها سيد قطب في (ظلال القرآن)، ثم نفذتها داعش علي أرض الواقع حللت مساء الأربعاء الماضي ضيفا علي جامعة القاهرة العريقة، التي هي منبر العلم والحكمة وصناعة العقول الكبيرة في وطننا العربي، بدعوة كريمة من رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور جابر نصار، لإجراء حوار مفتوح مع طلاب الجامعة الكرام، حول التطرف والتكفير، وحول كتابين تشرفت بتأليفهما، وهما: (الحق المبين في الرد علي من تلاعب بالدين: التيارات المتطرفة من الإخوان إلي داعش في ميزان العلم)، وكتاب (الفهم المنير، للآيات التي أخطأ في فهمها أهل التطرف والتكفير)، ولكي ينفتح الحوار لكل ما يدور في العقول والقلوب من أسئلة وهموم وآمال وآلام، وقد تشرفَتْ هذه الأمسية بعدد من الشخصيات الكبيرة الموقرة، علي رأسهم معالي الدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء الأسبق، وعدد من الشخصيات، وامتدت الجلسة نحو ثلاث ساعات ونصف تقريبا، امتلأ فيها وجداني بشعور عميق بعراقة مؤسسات وطننا العظيم، وعراقة الإنسان المصري، وتعدد مواهبه، ومدي الثراء العقلي والمعرفي الهائل الذي حظي به هذا الوطن، وأهمية التضافر والتلاحم بين كل تلك المؤسسات، حتي يتربع وطننا العظيم مصر علي أكتافنا جميعا، وحتي نخترق سريعا مرحلة التطرف الديني والتكفير بكل صوره ومظاهره وأدبياته وشعاراته، وننطلق من جديد إلي العقل المصري المنير المتحرر من الأغلال، القادر علي التسامي فوق كل الأزمات، وحتي تعود جامعاتنا ومعاهدنا العلمية ومدارسنا من جديد لصناعة العقول المصونة من تزييف الوعي والانحراف بمقاصد الدين، لترجع العقول من جديد إلي التفكير والإبداع والتألق والتوهج والاختراع والاستنتاج واكتشاف المواهب، وكل هذا لتولد مصر من جديد، وقد أحببت هنا أن ألخص أهم النقاط التي تكلمت فيها: - فارق كبير بين من يستخدم الآيات والأحاديث فيستخرج منها الهداية والعلم والحضارة، وبين من يستخدمها فينحرف بها إلي الدماء والخراب، كالفارق بين البَنَّاء الماهر الذي يستخدم مواد البناء فيصنع منها صرحا شامخا، يبقي عبر الزمن، وبين من يستخدم نفس الأدوات بدون علم فيصنع بناءً ينهار فوق الرؤوس ويتسبب في الموت والخراب. - أنشطة تيارات التطرف عبر التاريخ تتلخص في قضيتين اثنتين، وهما رفع راية التكفير ثم حمل السلاح والقتل، وكل تيارات التطرف هي بعينها منهج الخوارج، لكن تختلف مظاهره وأشكاله وأسماؤه وشعاراته عبر التاريخ مع بقاء نفس المنهجية الدموية. - لو جمعنا تيارات العنف عبر خمسين سنة، من تنظيم الفنية العسكرية، وتنظيم التكفير والهجرة، وتنظيم الجهاد، وتنظيم القاعدة، وتنظيم بوكو حرام، وتنظيم داعش، وغيرها من التنظيمات، لوجدنا أننا أمام منهجية الخوارج التي تتلخص في الشعارين المرفوضين: التكفير وحمل السلاح للقتل. معالم علي الطريق - فكرة الإخوان المسلمين فكرة نبتت علي يد حسن البنا وكان عمره 19 سنة، وأساتذته جميعا اعترضوا علي فكرته، ورجع هو في نهاية المطاف يقر بخطأ الفكرة، ثم جاء المرشد الثاني حسن الهضيبي ليرصد تسارع التكفير بين شباب الإخوان، ثم حصل أن تورطت جماعة الإخوان في اعتناق فكر التكفير علي يد سيد قطب، الذي تخرج من تحت يده عدد ممن تولوا صفة مرشد الإخوان. - أطروحة سيد قطب في ظلال القرآن مغرقة في التكفير، بل انتقل من تكفير كل المسلمين علي وجه الأرض إلي توسيع دائرة التكفير لتشمل الجيل السابق والجيل الذي قبله حتي خرج بنظرية غريبة جدا يري فيها أن الدين الإسلامي انقطع عن الوجود، ويصرح بهذا في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) وفي كتابه (معالم في الطريق)، وهذه الفكرة الصارخة الآثمة التي هي انقطاع الدين الإسلامي عن الوجود نظرا للإغراق في تكفير واسع يمتد للأجيال الماضية هي التي صرح بها بعد ذلك أبو بكر البغدادي زعيم داعش، والذي أقر وشهد بأن أطروحة قطب تكفيرية بل تنضح بالتكفير هو القرضاوي نفسه في كتابه (ابن القرية والكتاب ملامح سيرة ومسيرة)، بل مازال هذا علي الموقع الرسمي للقرضاوي إلي الآن. حتمية الصدام - فكرة حتمية الصدام نشأت عند حسن البنا كما في كتابه (رسالة المؤتمر الخامس)، ثم وسعها وضخمها سيد قطب في (ظلال القرآن)، ثم نفذتها داعش علي أرض الواقع. - نحن أمام مجموعة من الأفكار المغلوطة، والمفاهيم المظلمة المختلة، تغزو العقل، فيتحول من متدين إلي متطرف، ثم يتحول بها من متطرف إلي تكفيري، ثم يتحول بها من تكفيري إلي قاتل يحمل السلاح ويريق الدماء، لتتم بذلك دورة حياة الفكر المتطرف، ولتتم بذلك هذه الرحلة المأسوية، من صناعة عقل يرفع شعار التدين وفي أعماق عقله ووعيه يحمل معاني التكفير والتحامل والعدوان. - الخطاب الديني علي مدي ثمانين عاما مضت يتلخص في عدد من السمات، ألخصها في ثمانية أمور، وهي: 1- الحماس المطلق، 2- الاندفاع الأهوج، 3- افتقاد أدوات العلم، 4- الغياب التام لمقاصد الشريعة، 5- التباس الواقع وعدم القدرة علي استيعابه وفهمه وتحليله، 6- عدم الإنسانية والرحمة، 7- عدم المنطقية وافتقاد الخطاب العقلاني الرصين القابل للتصديق والاقتناع به، 8- القبح، وهو النتيجة الأخيرة، والمحصلة النهائية لأي تفكير يتم تصنيعه وبناؤه بهذه الطريقة. مما يفضي بالإنسان إلي أن يكون فظا عنيفا، فاقدا للرحمة والرفق، منغلقا علي نفسه وعقله، محتكرا للدين والحقيقة، مستعليا علي غيره، متكبرا عليه، فتكون نتيجة هذا النمط من التدين أن يولد الإلحاد والانفضاض عن الدين، لما ظهر للناس من شدة قبح طريقة التدين المنغلق، الذي يصر صاحبه في الوقت نفسه علي أن هذا النمط ليس خاصا به كشخص، يتحمل هو تبعته، بل يصر تماماً علي أن هذا هو نفس الدين، وأن الدين نفسه هو الذي يصنع هذا القبح، وقد لخص الله تعالي لنا هذا المنهج حين قال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (سورة آل عمران، الآية 159)، والمعني أن الرحمة واللين هما مفتاح الشريعة وأساسها وجوهرها، وهما الروح السارية في كل أحكامها وتشريعاتها وفقهها وتطبيقاتها وعلومها، وأن غياب الرحمة واللين يؤدي إلي ميلاد نمط من التدين الفظ الغليظ، الذي يصر علي أن يجعله نفسه هو الدين، فتكون النتيجة: (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)، وتحت يدي دراسة مطولة وخلاصة تأمل طويل في تلك السمات الثماني، التي تبدأ بالحماس وتنتهي بالقبح وتولد الإلحاد. ظاهرة الإلحاد - النتيجة المباشرة لهذا الخطاب المختل هي ميلاد ظاهرة الإلحاد الحديث، الذي يختلف تماما عن كل صور الإلحاد الفردية التي كانت في الأربعينات أو السبعينات، والإلحاد الحديث ناشيء من قبح شديد في تصدير وصناعة صورة الإسلام، مع التخلف الحضاري، مع الأمية الدينية، مع انفجار معرفي ومعلوماتي يتمثل في سوشيال ميديا، نعجز نحن إلي الآن عن أن نملأه بفكر منير. - هناك نشاط فلسفي في العالم حولنا للتنظير للإلحاد، يستغل بعض معطيات ثلاثة أصول معرفية عظيمة، أولها: الكوزمولوجي أو الفيزياء الكونية، حيث يولد بعض عباقرتها أطروحة فيزيائية تقوم بالتنظير للإلحاد من خلال هذا العلم المهم، فأين علماؤنا وخبراؤنا الفيزيائيون المتعاونون مع عدد من المفكرين الإسلاميين لصناعة حوار فلسفي فكري يثبت منطق الإيمان، وهل يمكن أن تشهد جامعاتنا المصرية نشاطا جديدا وإحياء جديدا لميلاد عباقرة فيزيائيين يشاركون العالم في صناعة الفكر بما يوجد موضع قدم لديننا وهويتنا، ثانيها: البيولوجي ونشأة الحياة، وهناك فارق هائل بين الداروينية الحديثة بكل جامعاتها وخبرائها وفلاسفتها وبين الدراوينية القديمة، لكن كثيرا منا لا يحدث معرفته ومعلوماته، ويحبس نفسه في مناقشة نمط معرفي مرت عليه عقود، ونحن حتي لم نرصد ردود أفعالنا كمشرقيين أو مسلمين علي هذه الأطروحة، باستثناء أطروحة جامعية للباحثة المصرية مروة الشاكري حول داروين في الشرق من سنة 1860 إلي 1940، ولم تترجم بعد، ولم نكمل الرصد إلي سنة 2015، ولم ننجح في صناعة خبراء في نشأة الحياة يحترمون البحث العلمي ويناقشونه ويشتبكون معه في آخر أطواره وتحديثاته، وثالثها فلسفة الوعي والذكاء والإدراك وقد كتب فيها دانييل دانيت، وغيره. فبينما نحن في حاجة إلي إطلاق عاجل لحوار فكري وعلمي، وصناعة معرفية ثقيلة ترصد ما يجري حولنا في العالم من فكر وفلسفات، وتلاحق ذلك، وتشتبك معه، إذا بنا مازلنا غارقين في التكفير والحاكمية والجاهلية وداعش والإخوان. - إن الثمانين عاما الماضية من فكر تيارات التطرف لابد أن تزول، وأن نطوي صفحتها تماما، وأن نتجاوز هذه المرحلة بكل تنظيراتها وشعاراتها، وأن نبدأ مرحلة جديدة من الصناعة المعرفية الثقيلة المحققة لمقاصد الشريعة التي هي فقه العمران، وبناء الحضارة والمؤسسات، والبحث العلمي، وحفظ الأوطان، والتواصل مع العالم، وتعارف الحضارات، والقضاء علي الفقر والأمية والمرض، ومعرفة الله تعالي وذكره، وتعظيم شعائره. - لابد من إعادة تشغيل مصانع الحضارة الكامنة في آيات القرآن، وتحويل آياته إلي برامج عمل، تتحول بها كل آية من: كلمة إلي قيمة إلي مؤسسة إلي حضارة، كما صنع المسلمون ذلك في تاريخهم، فحولوا معني الرحمة إلي مستشفيات، وارجعوا إلي قراءة كتاب (تاريخ المستشفيات في الإسلام) لأحمد عيسي، وحولوا معني السعة والارتباط بالعالمين في قوله تعالي (الحمد لله رب العالمين) إلي مراصد فلكية عظيمة كانت في القرن الخامس الهجري قبل ألف سنة، أدت إلي إبداع المسلمين في علوم البحار، ووجود أمثال أحمد بن ماجد ملك البحار كما سماه البرتغاليون، وحولوا معني التنوير إلي مدارس علمية، فيشهد ابن خلدون قبل ستة قرون أن العلم والتعليم في زمانهم إنما هو في القاهرة من أرض مصر، لكثرة مدارس العلم فيها، فهل ترون الآن شدة إجرام التيارات التي تترك كل ذلك وتنحرف بنا إلي القتل والدمار والحرق والتكفير. سلام علي الصادقين كانت هذه أهم العناوين والأفكار التي دارت حولها جلستنا في رحاب جامعة القاهرة، وتحت قبتها الشامخة، وقد شعرت كثيرا بالحاجة الملحة لوجود آليات ثقافية واسعة للنقاش والتفكير، واقترحت إنشاء صالون ثقافي شهري مثلا ترعاه جامعة القاهرة، وتجتمع فيه العقول المصرية الكبيرة، ليستفيض الحوار والنقاش والعصف الذهني، بين الشرائح والأجيال والأطياف الفكرية، وإلي أهمية إعادة بناء جسور المعرفة والفكر المشترك بين كل فئات المجتمع، وشعرت بأهمية التحديث والمتابعة والرصد والتفكيك للأطروحات المتجددة التي تتلاعب بالعقول، وتزيف الوعي، لننقض عليها بالتفكيك والتفنيد، حتي ننتهي سريعا من مرحلة الحيرة والضبابية، ونرجع إلي ميلاد جديد للحضارة والهمة والتألق في رحاب مصر الطاهرة، وسلام علي الصادقين.