مجموعة من الأفكار المغلوطة، والمفاهيم المظلمة المختلة، تغزو العقل، فيتحول من متدين إلي متطرف، ثم يتحول بها من متطرف إلي تكفيري، ثم يتحول بها من تكفيري إلي قاتل يحمل السلاح ويريق الدماء، لتتم بذلك دورة حياة الفكر المتطرف، ولتتم بذلك هذه الرحلة المأسوية، من صناعة عقل يرفع شعار التدين وفي أعماق عقله ووعيه يحمل معاني التكفير والتحامل والعدوان، وهي منظومة من الأفكار التي ظاهرها استدلال بآيات قرآنية كريمة، وأحاديث نبوية شريفة، مع صياح وهتافات وأدبيات ولهج وشغف بقضية الإسلام، لكن فحواها وباطنها اندفاع وغضب ورفض ودخان فكري وطباع متعطشة وظامئة لأي انفعال حركي سريع يشفي غيظ النفوس، وتتدفق وتنفجر فيه تلك الشحنة من الانفعالات والعواطف، التي تجعله ينفث عن مكنون نفسه وما فيها من غيظ وانتقام، ليسحب علي ذلك غطاء من توهم تنفيذ مراد الشرع الشريف، ومن توهم أنه لا يندفع إلي تلك الأنشطة التخريبية بسبب اندفاعه الأعمي ونشاطه المتخبط، بل يتوهم ويوهم أنه بريء من التدمير والتخريب، وأنه في نظر نفسه غير مخرب أصلا، حيث قام بترحيل تلك الأمور من نفسه هو إلي الشرع الشريف، وألصقها به، حتي خرج منهم من يقول بصريح لسانه: إن هذه البذاءات الفاحشة التي أنطق بها ليست سوء أدب مني، بل لأن الله أمرني أن أسب!!!!!!!! ونسي قول الله تعالي (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (سورة الأعراف، الآية 33)، وهكذا تضيع الآيات المحكمات، وتنطمس أنوار الشريعة ومكارمها القائمة علي الخلق العظيم، وإكرام الإنسان، وصناعة الحضارة، وسعادة الدنيا والآخرة، لتتدفق بدلا منها حمم بركانية من أعماق أنفس مظلمة، تلصق اندفاعها بالشرع، ويعطي صاحبها لنفسه مبررا لانفلات أخلاقه ولسانه وعقله وتفكيره، حيث إن الشرع في نظره هو الذي أمره بكل ذلك!! إنها مجموعة من السمات والصفات والمعالم، التي تصنع هذا التوجه من التدين المغلوط، الذي ينحرف بصاحبه عن طريق مواريث النبوة الرفيعة النبيلة حتي يتورط صاحبها في الهياج والاندفاع والتخريب، ويمتهن في طريقه حرمة الوحي والدين والأخلاق، ويدمر منظومة مقاصد الشريعة، القائمة في جوهرها علي إكرام الإنسان، وربطه بربه، وتناغمه مع الكون من حوله، وصناعة الحضارة فيه والعمران، مع كثرة الذكر والشكر والسلوك الإنساني الفاضل الرفيع وتلك المنظومة الصناعة لعقلية التطرف مكونة من عدد من الصفات والسمات والقناعات والأفكار، المتكونة بطريقة معرفية منحرفة، والممتلئة بادعاء المعرفة، والسطو علي العلم الأصيل، وسرقة المهام العلمية التي لم يكن يصلح لها إلا عالم خبير محنك قد تلقي العلم ووصل إلي مفاتيحه ومناهجه من خلال دراسة طويلة الأمد، حافلة بالخبرات والمداخل العلمية الدقيقة، وهي في نفس الوقت مناهج علمية ليست محجوبة ولا سرية ولا كهنوتية، بل هي متاحة وأبوابها مفتوحة لأي راغب، لكنها تحتاج إلي صبر وتفرغ وعكوف ودراسة ومنظومة علمية متقنة، فجاءت في الثمانين عاما الأخيرة أجيال مفعمة بالحماس، ولا صبر لها علي صعوبة العلم، واندفعت إلي تلك المسالك الدقيقة بالحماس المجرد، والاندفاع المشتعل، فصارت تري الشريعة ومقاصدها من خلال اللهب الذي يندلع في صدورهم فنتج فكر التطرف، وصارت له أدبيات وكتابات وأنشطة وجرائد وفعاليات واستقطاب واحتلال للعقول، يبيع الوهم، ويجنب العقل للتطرف، ويجعله يمتليء بادعاء العلم، وادعاء حقيقة التدين، ثم احتكار التدين، ثم تجريد المخالف من التدين، ثم تكفيره، ثم مناصبته العداء، ثم حمل السلاح عليه، ثم تسمية كل ذلك جهادا. والمتأمل لكل ذلك السياق يستطيع أن يلحظ عددا من السمات، ألخصها في ثمانية أمور، وهي: 1- الحماس المطلق، 2-الاندفاع الأهوج، 3- افتقاد أدوات العلم، 4- الغياب التام لمقاصد الشريعة، 5- التباس الواقع وعدم القدرة علي استيعابه وفهمه وتحليله، 6- عدم الإنسانية والرحمة، 7- عدم المنطقية وافتقاد الخطاب العقلاني الرصين القابل للتصديق والاقتناع به، 8- القبح، وهو النتيجة الأخيرة، والمحصلة النهائية لأي تفكير يتم تصنيعه وبناؤه بهذه الطريقة، مما يفضي بالإنسان إلي أن يكون فظا عنيفا، فاقدا للرحمة والرفق، منغلقا علي نفسه وعقله، محتكرا للدين والحقيقة، مستعليا علي غيره، متكبرا عليه، فتكون نتيجة هذا النمط من التدين أن يولد الألحاد والانفضاض عن الدين، لما ظهر للناس من شدة قبح طريقة التدين المنغلق، الذي يصر صاحبه في الوقت نفسه علي أن هذا النمط ليس خاصا به كشخص، يتحمل هو تبعته، بل يصر تماماً علي أن هذا هو نفس الدين، وأن الدين نفسه هو الذي يصنع هذا القبح، وقد لخص الله تعالي لنا هذا المنهج حين قال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (سورة آل عمران، الآية 159)، والمعني أن الرحمة واللين هما مفتاح الشريعة وأساسها وجوهرها، وهما الروح السارية في كل أحكامها وتشريعاتها وفقهها وتطبيقاتها وعلومها، وأن غياب الرحمة واللين يؤدي إلي ميلاد نمط من التدين الفظ الغليظ، الذي يصر علي أن يجعله نفسه هو الدين، فتكون النتيجة: (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)، وتحت يدي دراسة مطولة وخلاصة تأمل طويل في تلك السمات الثمانية، التي تبدأ بالحماس وتنتهي بالقبح وتولد الإلحاد، ويمكن أن أخصص المقالات القادمة لذلك، بحيث أجعل كل مقال يتناول سمة وصفة من تلك الصفات، حتي نوسع القول فيها، ونغوص معا في طريقة حصولها وتكوينها، لعل هذا أن يكون خير معين ومساعد علي الوعي الذي يحمي ويحصن العقول من هذا الانحراف، ولعله أيضاً أن يكون معينا ومساعدا علي صناعة فكر حر أصيل إنساني رحماني نبيل، يستوعب مقاصد الشريعة، ويبني الإنساني المحمدي الأخلاقي، الصانع للحضارة والناشر للعمران.