بين الأزهر الشريف وبين شعب مصر الأصيل علاقة عميقة, جاوزت الألف سنة, وقف فيها الأزهر حارسا أمينا علي هوية الشعب, وطريقة تدينه, ورسخ مكانة مصر في أعماق الشعوب العربية والإسلامية, وأمد مصر بالعلماء الكبار الأمناء علي الدين والوطن, وقد عرفت مصر في مقابل ذلك للأزهر الشريف قدره العظيم, فقامت باحتضانه, ورعايته, وافتخرت به, وحافظت عليه طوال ذلك الزمن الممتد, إنها علاقة تفاعلية شديدة العمق, تبادل فيها الطرفان العرفان والتأييد, ونحن في حاجة ملحة للتنقيب عن الكيفية والآلية المعرفية, التي قام الأزهر من خلالها بإنتاج نمط التدين المعتدل, الذي عاش به الشعب المصري أرقي صور التدين, وأكثرها توازنا, ذلك التدين القادر علي إنتاج الحياة, ونشر العمران, دون شائبة تكفير ولا تطرف ولا تشدد ولا تنفير, وسبب ذلك هو عدد من الأمور: أولها: أن الأزهر الشريف علم أبناءه وطلابه مقاصد الشريعة, التي جاءت في الأساس لحفظ الدين, والنفس, والعقل, والعرض, والمال, من أجل رخاء الإنسان وأمانه, وجاءت بفلسفة الإحياء لا الموت, حتي صار شعار الشريعة:( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا), فمقصد الشريعة هو إحياء النفوس بالعلم والمعرفة, وحفظ الحقوق والممتلكات, فكل من تعلم في الأزهر, والتزم بمنهجه, فإنه يتخرج فيه وقد امتلأ عقله ووعيه بهذه القيم, فلا يصدر منه تخريب ولا تدمير ولا عدوان, بل تصير رسالته في الحياة رسالة سامية راقية. ثانيها: أن الأزهر الشريف يعظم قيمة الأوطان تعظيما كبيرا, ويعلم الناس أن الشعور بالانتماء والوفاء للوطن شعور شريف, يفرزه الطبع السليم, ويرعاه الشرع الكريم, وأن حفظ الأوطان وحبها من شمائل الشرع, ومعالم الدين, فلا يخرج أبناء الأزهر الأوفياء لمنهجه إلا بعمارة الوطن وصونه. ثالثها: يعلم الأزهر الشريف أبناءه أن الإسلام الذي هو دين الله الواسع الحنيف الرحيم, يتسع للجميع, ويظلل الخلق جميعا برحمته وأخلاقه, وأنه ليس من حق أحد أبدا أن يحتكر الإسلام, أو أن يجرد غيره منه, أو أن يدعي أنه وحده الممثل لهذا الدين, أو أن يستعلي بالدين علي عباد الله, بل علامة صدقه أن يرفع الحرج عن الناس, وأن يدخلهم في حمي الشرع الشريف, لا أن ينشغل بإخراجهم من الشرع بعد أن أدخلهم الأنبياء فيه. رابعها: أن الأزهر الشريف يعلم أبناءه وطلابه أن التكفير شر كبير, وأنه أمر في غاية الخطورة, طالما نهي الشرع الشريف عن استسهاله, أو المسارعة فيه, أو إشاعة الترامي به, بل جعله النبي صلي الله عليه وسلم أشد شيء يخاف علي أمته منه, فلا يجازف بالتكفير إلا شخص متهور. خامسها: إن الأزهر الشريف علم الناس أن تنزيل الأحكام الشرعية وتطبيقها علي واقع الناس أمر دقيق, لابد معه من إدراك الواقع, والإحاطة به, من خلال منظومة كاملة من العلوم, التي تفرق بين الحكم الشرعي وبين الإفتاء به, وتفرق بين الفتوي والقضاء, وتتحري معرفة الواقع الاجتماعي والفكري والمعرفي, ومعرفة عالم الأشياء والأشخاص والأحداث والأفكار, وعلاقات تلك العوالم, ومن لم يستطع أن يحيط بتلك العلوم والمعارف, فإنه لا يجوز له الكلام في الحلال والحرام قط, لأن إدراك إشكاليات الواقع, وتحليلها, ومتابعة تطوراتها, تحتاج عددا من العلوم والمهارات, ومن كان معزولا عن الواقع, أو لا يتابعه, أو يتابعه بصورة سطحية فإن فهمه للشرع الشريف سيكون في المقابل منقوصا ومشوها. سادسها: هناك رابط عميق يربط كل تلك الأمور السابقة, وهو كذلك روح الشريعة, وهو الذي يشعر الناس من خلاله بأنفاس الرحمة, ومعالم الربانية في الشرع الشريف, وذلك الرابط هو الرحمة, فكل منهج يقوم علي الغلظة والعنف والتخريب والعناد فإنه بعيد عن معين هذا الدين, الذي وصف الله تعالي نبيه صلي الله عليه وسلم بقوله:( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك), والأزهر الشريف من خلال علومه ومناهجه ومراحله التعليمية يملأ عقول أبنائه وعقول الناس من حوله بأن الرحمة معيار صادق لا يتخلف, ولا يمكن لمنهج أن يخدم الدين وهو خال من الرحمة والأخلاق. وخلاصة القول إن ما أفاضه الأزهر علي الدارسين فيه, هو عدد من البصائر التي جعلتهم صمام أمان للمجتمعات والأمم والشعوب, حتي عاش الأزهر ألف سنة من عمره المبارك, فما أريق بسببه دم, ولا وقع بسببه خراب, وقد ظل وسيبقي أمينا علي الدين, أمينا علي الوطن, حريصا علي إكرام الإنسان ونشر العمران. لمزيد من مقالات د شوقى علام