كان من فضائل الناقد الكبيرد.محمد مندورأنه عندما ترجم رواية (مدام بوفارى) للروائى الفرنسى جوستاف فلوبير(1821- 1880) أنه ترجم النص الكامل للمحاكمة فى الدعوى المرفوعة ضد فلوبيربسبب روايته. وجاء نص المحاكمة مع الرواية فى كتاب واحد، وأنا أعتمد على طبعة دارالآداب– بيروت– يناير1966. فهل ما جاء فى الرواية كان يستحق لعنة الأصوليين المسيحيين فى القرن التاسع عشر؟ إيما (بطلة الرواية) تعشق قراءة الأدب الرومانسى، وصنع خيالها وهمًا بضرورة أنْ تعيش حالة حب رغم أنها مُتزوّجة، فأقنعتْ نفسها بأنّ حب زوجها لها ((خالٍ من الحرارة)) وكانت تنتقد نظرة المجتمع الذى يُفرّق بين المرأة والرجل. تعرّفتْ على إنسان أحبته ووافقها على الهرب، ولكنه تخلى عنها وهرب وحده. فتصاعدتْ حالتها النفسية إلى ذرة اليأس والاحباط، فلم يكن أمامها من سبيل غيرالانتحار. والذين أدانوا فلوبيراتهموه بترويج الفسق ولم ينتبهوا لمشهد القسيس وهويُصلى عليها صلاة الاستغفار. وصف فلوبيرهذا المشهد قائلا ((غمس القس إصبعه فى الزيت وابتدأ المسحات الأخيرة: أولاعلى عينيها اللتيْن تطلّعتا إلى المُتع الأرضية. ثم فوق أنفها المولع بالنسمات الفاترة والروائح الغرامية. ثم فوق فمها الذى كان مفتوحًا للكذب والذى كان يئن من التكبر ويصيح من النشوة. ثم فوق اليديْن اللتيْن كانتا تتلذذان باللمسات العذبة. وأخيرًا فوق مسطح قدميها اللتيْن كانتا– فيما مضى– بالغتىْ السرعة فى الجرى لإشباع رغباتها)) فهل هذا الوصف فيه تعاطف مع إيما أم فيه إدانة لتصرفاتها وخيانتها لزوجها؟ وأثناء صلاة القس وطقوسه- كانت إيما بين الحياة والموت– وفجأة سُمعتْ على الرصيف ضوضاء حذاء خشبى سميك مع حفيف عصا وصوت أجش يرتفع مُغنيًا ((كثيرًا ما تدفع حرارة يوم صحوالصبية إلى أنْ تحلم بالحب)) فنهضتْ إيما كالجثة التى ينفخون فيها الحياة. واستمرّ الصوت يُغنى ((لكى تجمع– فى خفة- السنابل التى يحصدها المنجل. ها هى حبيبتى قامتْ تنحنى فوق خط المحراث الذى يعطينا هذه السنابل)) فصاحتْ إيما (الأعمى) أى المغنى الأعمى الذى استمرّفى غنائه ((وهبّتْ الريح قوية فى ذلك اليوم.. وتطايرتْ الجونلة القصيرة)) وفى هذه اللحظة كانت إيما قد فارقتْ الحياة. هذا المشهد كتبه فلوبيربلغة الفن الروائى، وبدرجة عالية من الإبداع الرفيع، فالأغنية التى اختارها من التراث الإيطالى الشعبى، تكاد تُلخّص حالة إيما، لذلك كان انطباع إيما ((عندما سمعتْ صوت المغنى الأعمى أنها تخيّلتْ رؤيتها لهذا الوجه المُخيف الذى ينهض فى الظلمات الأبدية كشبح مُرعب)) وإذا كان فلوبير- فى هذه الرواية وفى كل انتاجه الأدبى- مع قيم الأخلاق النبيلة، فلماذا انقلب عليه الأصوليون المسيحيون وقدّموه للمحاكمة ؟ الأسباب الحقيقية للهجوم على فلوبير: لأنّ فلوبيرصاحب عقل حر، لذلك فإنه– كان أثناء عملية الإبداع - يضع القارىء مع مُجمل الواقع الثقافى للمجتمع الذى يكتب عنه، ولسيطرة الكهنوت الدينى على عقول الكثيرين. المحاكمة : مثّل الأصوليين فى المحكمة ممثل النيابة العامة الذى قال أنّ الرواية فيها إساءة للأخلاق وإساءة للدين. لأنها عن ((قصة زنا امرأة بالريف واللون العام للمؤلف هواللون الشهوانى)) أما محامى فلوبيرفقد جمع فى دفاعه بين الدفوع القانونية والنقد الأدبى، مما يدل على أنه قرأ الرواية بعمق، لذلك قال إنّ النيابة لاتستطيع أنْ تُقدم موكلى للمحاكمة كصانع للوحات شهوانية. وأنّ الفقرات التى انتزعتها النيابة لوضعنا ما قبلها وما بعدها، فسوف نتعرّف على حقيقة مقاصده. وأنّ الرواية ستدعوالفتيات للتفكير، وهذا هوما فعله السيد فلوبير. كما أنّ الحل الأخلاقى موجود فى كل سطرمن سطورالرواية. وقال محامى فلوبيرلمحامى الامبراطورية ((لقد أخطأتَ خطأ جسيمًا فى حكمك على موكلى، فهولم يرتكب الخطأ الذى أخذته عليه، وإنما أنت الذى أخطأت)) ولأنّ محامى الامبراطورية لم يقرأ الرواية جيدًا وأساء الفهم، فإنّ محامى فلوبيرقرأ المشهد التالى ((وفى أثناء الصلاة يوم الأحد عندما رفعتْ إيما رأسها رأتْ وجه العذراء السمح، وعنئذ تملّكها الحنان. وأحسّتْ بالاسترخاء والهجران كعصفور يدورمع العاصفة. وحدث هذا دون أنْ تُدرك أنها تتجه نحوالكنيسة مستعدة للعبادة، وتمتص هذه العبادة روحها وأنْ يختفى الوجود كله)) وكتب فلوبير((وانهارتْ من النشوة الإلهية وهى تمد شفتيها لكى تتناول اسم المسيح الذى تقدم إليها.. إلخ)) حكم المحكمة : بعد الكثيرمن الحيثيات ورد بالحكم ما يلى ((وبما أنّ هناك حدودًا لاينبغى للأدب مهما كان خفيفًا أنْ يتخطاها، وأنّ السيد فلوبير وزملاءه فى الاتهام قد راعوا هذه الحدود الرعاية الكافية. وبما أنّ الكتاب الذى ألّفه فلوبيركتاب يلوح أنه عَمَلَ فيه بجدٍ ولزمن طويل من الناحية الأدبية ومن ناحية دراسة الشخصيات، حتى إنّ الفقرات التى انتقاها قرارالاحالة مهما تكن معيبة، إلاّ أنها قليلة العدد إذا قورنتْ بطول الكتاب، وهذه الفقرات– سواء من ناحية الأفكارالتى تعرضها أوالأوضاع التى تُصوّرها، تدخل فى مجموع الشخصيات التى أراد المؤلف تصويرها، مع المُبالغة ومع صبغتها بواقعية مُبتذلة مُنفرة فى كثيرمن الأحيان. وكان خطؤه هوفقط إغفاله أحيانًا للقواعد التى لايجوزأنْ يتخطاها... وبما أنه لم يثبت الثبوت الكافى أنّ بيشيه وبيليه (الناشريْن) وفلوبيرقد ارتكبوا الجرائم المنسوبة إليهم، فإنّ المحكمة تُبرئهم من الاتهام وتُسرّحهم بدون مصاريف)) (بدأتْ الجلسات فى 31 يناير1857 وصدرالحكم بجلسة 7 فبراير1857- ونص المحاكمة - الذى أورده د. محمد مندور- من ص421- 457).