لم تكن لديه أحلام مقلوبة, شكلها يأس أصابه, أو احباطات أو خيبات يعانيها, بل كانت أحلامه نتاج وعي يدرك الحد الفاصل بين الوهم والمستحيل. إذ كان دائم الحوار مع واقعه بالتداخل, والاشتباك مع سياقاته, وكانت معاركه بتنوعها, وعلي مدي حياته, ليست طلبا لاعتراف الآخرين به, بل امتلاء بالقدرة والعزم اللذين يحققان وجوده. وظل هذا الوجود عنده محل تساؤل دائم, سعيا إلي ضبط قدرة ذاته في حجمها الحقيقي, ذلك ما ميز مشروع حياة أستاذي وشيخي الراحل الجليل محمد مندور, الذي اتسم بشرف صراعاته ونبلها, سواء في واقعه الشخصي, أو واقعه العام السياسي والاجتماعي والثقافي, ولم تفلح في استبدال مواقفه, وزعزعة كيانه اغراءات الترغيب والتطويع حتي رشوة تقلد أرفع المناصب, أو آليات العزل والمطاردة والافقار, حتي الملاحقة بالسجن لاثنتين وعشرين مرة في الأربعينيات, إذ كشفت معاركه ومواجهاته عن صلابته, وعدم اذعانه, وأكدت أيضا صعوبة تنكره لاستحقاقات مجتمعه التي كان التنكر لها يعني انتحاره, حيث كان صراعه ليس صراع مصالح ينشدها لذاته, بل صراع مفاهيم لإدراك الواقع, بوصفها نشاطا عقلانيا يبني عالم المباديء في بعدها الإنساني, حماية لذلك الواقع من الإدراك الخاطيء, الذي كان يعني عنده, العجز عن التخلص من الشكوك, ومقاومة الهواجس, والأوهام التي تعكسهامرايا مضللة, تخفي الحقائق, وتزين عنف احتكار استهلاك حقوق الآخرين, بل في أعلي مراحل الخداع الذاتي تبرر النزوع نحو التخلي عن حقوق الذات تجاه ذاتها, وشل مسئوليتها, وطمس وعيها عن رأب صدع التفاوت في الحقوق بين الناس, نتيجة استيهامات مضللة تنفي معني الإنصاف والعدالة. في الذكري الخامسة والأربعين لرحيله, رحت استرجع ذكريات ارتباطي به في علاقة شبه يومية, امتدت أيام الدراسة, وتواصلت خلال عملي معيدا له, حيث أتاح لي في أثنائها حرية ممارسة تساؤلي الدائم, الذي يسكنني بحكم دراستي للمسرح التي تحتم ألا نكتفي بالأحداث التي تجري علي خشبته, بل لابد من امتداد المعرفة إلي كواليس المسرح أيضا. كنت مولعا شوقا بتعرف القصدية التي تختفي وراء تجليات ممارسات استاذي, تفصيلا وشروحا, بوصفها نتاجا لمفاهيم تعكس إضاءة الواقع, وتكشف عن الطموحات الفكرية لنموذج رجل نادر. لم أكن أسعي إلي شهادة علي ما كان يريد الراحل العظيم إثباته, لكني كنت أرغب في فهم أسباب ومحرضات قبوله ما قبل, ورفضه ما رفض, وآليات تحققها, مما جعل رنينها ظلا ممتدا خلال الزمن رغم رحيله. صحيح أنني كنت أدون كل ما يدور بيننا في كراسات احتفظ بها, خوفا من أن ينفلت مني النص وينقضي بعد حواراتنا, لكن الصحيح أن الرجل بكل تجليات أفعاله يعيش بداخلي متسما بفورية الحضور الدائم, حيث تختفي أمامه توقيتات الزمن, إذ لم يستحل عندي شيخي بعد وفاته ماضيا أغلق بابه علي ذاته. سألته يوما عن سبب ترجمته رواية مدام بوفاري, لجوستاف فلوبير, التي تطرح مشروع حياة إيما, زوجة الطبيب شارل بوفاري, وذلك من خلال سرد لأحداث التغيرات التي أصابت إيما وتقلبات حياتها, وانهيار علاقتها بزوجها رغم حبه المؤكد لها, إذ لم تقم وزنا لثمن أفعالها مهما كان فادحا وفاضحا, حيث تركت جسدها متاحا لآخرين غير زوجها, بحثا عن حب رومانسي يلغي الحدود, حب تعلقت بتصوره, وصارت مهووسة بالعثور عليه, منذ تآلفت معه وسكنها من خلال قراءاتها الأعمال الرومانسية المحلقة, فدفعتها رغباتها وآفاقها اللامحدودة إلي بحث دءوب طاغ, يعوضها عن نفورها من حياتها القائمة علي اللاعلاقة أصلا مع زوجها, الذي من خلال تداولها اليومي معه أحست برودة حياتها, عندما اكتشفت صفاته المفارقة لتصوراتها, وذلك ما شكل قطيعة مع حلمها الرومانسي الملح الدائم, واستيهاماتها المتمادية المتخيلة المتعالية عن الواقع, تطلعا إلي حياة مدهشة محلقة بحب رومانسي, تسعي يما تشوقا إلي التقاء حميم بها علي مستوي الواقع. صحيح أنها خضعت لتصورها عن الحب الرومانسي المحلق, لكن الصحيح كذلك أنها ألغت كل دلالات النقائص في تصورها عند إقدامها علي تحقيقه في الواقع, وذلك بتلاعبها بالقيد الاجتماعي الذي تلتزم به, إذ تجلي تمردها في احتلالها مساحة التوسط, وذلك بالاحتفاظ بالقيد الاجتماعي, لكن دون الحفاظ عليه, فانطلقت تبحث عن عشيق تذوب معه هياما, ويعتصم به تصورها الرومانسي, فألقت بنفسها في أحضان يون, وتبدد حلمها عندما تركها هاربا, وسقطت منهارة, وظل تصورها عن الحب المحلق غائبا, يدفعها إلي المجهود لتكرار بحثها, فألقت بنفسها في أحضان رودولف, العشيق الذي تعددت مغامراته النسائية المؤقتة الزائفة, فابتلعها في مغامرة كاذبة فرت بها للحظات إلي إطلالة وهم خفي, ثم تركها كذلك هاربا, فعاودها انهيارها, لكنها أعادت علاقتها مع ليون, هروبا من فشلها, وتجاوزا لما تستشعره من فراغ جعلها تواصل تنازلاتها فيما يخص القيم دون مقاومة. إن إيما طوال بحثها عن ذلك الحب الأقوي والأخفي المفتقد, وخضوعها لسلطانه, ظلت هي وزوجها ليس أحدهما مرجعا للآخر, إذ فقد زواجهما دلالاته, بوصفه قيدا اجتماعيا, ولا شك أن ما يفقد دلالاته, يفقد أيضا وجوده وحقوقه, ومع ذلك فإن إيما لم تدرك فقدها ممارستها لحقها فيما يملكه زوجها من أموال, حيث راحت تبعثر ثروة زوجها, وتجبره علي الأستدانة, لتحصل علي مزيد من الأموال لتجلب بها الهدايا لعشيقها, وعندما اجتاح الانهيار المالي البيت, وبدأت تتداعي إجراءات الوفاء بالديون قصرا; إعمالا للقانون, فلجأت إيما إلي عشيقيها فخذلاها. عادت إيما إلي بيتها مهزومة, حيث اكتشفت غفلتها عن عدم إمكانها قيادة ذاتها, وانكسارها من مفاجأة أنها ليس لها موقع يمكن أن تشغله في الحياة, بعد أن سلكت دروبا مارست فيها تكرار خياناتها, وقد تخيلت أنها ستقودها إلي حلمها. إن عشاقها قد مارسوا معها بالمواربة, والكذب, والزيف لعبة الازدواج, فقد تشابهوا في إبهارها بمعانقة تخوم عالمها الذي تحلم به, بوصفه بالنسبة إليهم, محض استمتاع سريع موقوت, غير قابل للاستمرار, حيث فر كل منهم هاربا, خضوعا لضرورات واقعه ومصالحه. لقد تجلي لها أن ثمة تباعدا كاذبا بين خطابات عشاقها وأفعالهم, ولا خلاف أنها أدركت وقوعها أسيرة سحر مظاهر إيهاماتهم, وسحقتها رومانسيتها المريضة التي غذت استمتاعها بألعاب عشاقها الكاذبة المدهشة المفارقة لواقعها, فأنستها الواقع من حولها, ودفعتها إلي الانهيار عندما اكتشفت أن الحب المحلق قد تحول إلي أنانية مفرطة, ومغامرات شهوانية متعددة; لذا كان عليها أن تصفي حساباتها مع معني وجودها. لا شك أن الوجود في العالم يعني وجودا فيه علي الحقيقة, وإدراكا لحقائقه, وليس جموحا وجنوحا وتحليقا علي الدوام فوقه. إن إيما في مواجهتها لاجتياح الخسارات لمشروع حياتها, فضلت أن تعترف لزوجها بحبها له, قبل رحيلها انتحارا, هروبا من حقيقة لا يمكن تحملها أو استيعابها. أجابني شيخي عن سؤالي بسؤال: هل تتصور أن عفريتا جاءني في الحلم, وطلب إلي أن أترجم الرواية؟ فرحت أشاغبه بأن ذكرت له ما حكاه لي يوما عن الموسيقار الإيطالي تارينتي, في القرن الثامن عشر, عندما حاول تأليف إحدي سوناتته, فلاقي صعوبات في البدء, فخلد الي النوم, وفي أثناء نومه ظهر الشيطان له ممسكا بالكمان, وراح يعزف السوناتة, وحين استيقظ تارينتي علي الفور كتب سوناتته الشهيرة المعروفة باسم سوناتة الشيطان. ابتسم الراحل الجليل معلقا: وهل تري أن العفريت كان يجيد الفرنسية والعربية, وهو الذي ترجم الرواية؟ ثم استرسل الأستاذ العظيم موضحا أن أحاسيس تارينتي كانت حاضرة في أثناء يقظته, والنوم لايعني أن حواسنا تنغلق, ولولا وجود مشروع السوناتة في يقظة المؤلف ووعيه, لامتنع الحلم بها. إن حيوية شحنات أحاسيس المؤلف, ومعايشته الصادقة لموضوعه, واشتغال وعيه الدائم عليه, هي في مجموعها التي أبدعت ذلك العمل. أكمل شيخي حديثه شارحا أن الوعي الذي ينسي ذاته يتلف, و إيما قد تلف وعيها حتي نسيت ذاتها, حين أغرقت نفسها في تهويمات خلخلت وجودها. ثم أفصح شيخي أن ما دفعه إلي ترجمة الرواية سببان, أولهما: أنها تطرح وتندد بالتصور الفاسد, وما يمكن أن يؤدي إليه من اختلال وخراب, إذ راحت إيما تحاكي متقمصة بإفتتان بطلات الراويات الرومانسية التي ملأت حياتها, فشغلن مكان وجودها الحقيقي, فغيبت إيما عنها ذاتها, وأصبحت هي نفسها عائقا أمام حضور ذاتها الحقيقية. لقد فسد تصورها عن نفسها, وأصبحت علي غير ما هي عليه, وكذلك تصورت عشيقيها علي غير حقيقتيهما المخادعة, تصورتهما كأبطال الروايات التي قرأتها, فوقعت عندئذ في مخلبيهما, لقد أعماها تصورها الفاسد عن أن تري الواقع. وفكرة الرواية تنسحب أيضا علي السياسة التي يجب أن تقود الأفراد إلي تحقيق كيانهم المجتمعي, الضامن لإمكانات التنوع المتكامل, دون أن تقصي الفرد عن ذاته, بل تدفعه إلي اكتساب حقيقة ذاته, وتحميه من شطحات الالتصاق, والتقمص لوهم النماذج والقوالب, وهو ما لا يتحقق إلا بتعزيز آليات الوعي الدائم بإدراك الواقع, فالوعي هو استباق للمستقبل, وليس هناك وعي بدون انتباه للواقع, وذلك ما تدينه الرواية متجليا في عبث إيما بحياتها وتقمصها لوهمها الساقط, وفقدانها الوعي بالواقع الذي أحالها مطمعا لكل مخادع نتيجة تصورها الفاسد. ثم حدد أستاذي أن السبب الثاني لترجمته الرواية, هو ما أحاط بها من محاولات الترصد, لوضعها تحت طائلة المنع والمصادرة, ومحاكمة مؤلفها, لكن برزت الأهمية القصوي لفهم معني انعطافة تجدد الأفكار التي تجدد الواقع, ففشلت تلك المحاولات قضائيا, وأصبحت الرواية بذلك وثيقة دامغة لمعني حرية التعبير, وانطلاقا من تفعيل الاشتغال علي نقل المعارف, كانت ترجمة الرواية وما أحاط بها من معارك, تداولا لتلك الأفكار, والانفتاح عليها لمواجهة غير القادرين عن ابتكار ما يمكن أن يتخطوا به نماذجهم المتكررة, كي تزدهر الحرية المسئولة. فالرواية, وكذلك معركتها, تعنياننا بالدرجة الأولي. وعقب هذا الإفضاء من شيخ نقاد مصر عام1965, داهمه مرض رحيله, وهو يتصدي لكل تصور فاسد, ممارسا استنهاض معني الحرية المسئولة, من دون أن يشهر يأسه من تكرار محاولاته, فاستحق د. محمد مندور بتاريخه استمرار بقائه في ذاكرة الوطن, نموذجا لذلك الثبات الممتنع عن الانسحاب من ميدانه, مؤكدا مقولته التي علمنا إياها أن الحياة كموج البحر, إذا استراح مات. أيها الفارس المتفرد في حضورك رغم كل سنوات رحيلك, أنت مازالت تسكن مني العقل والقلب, ولاعزاء لي عنك حتي لو صارت كل حقول الكون سنابل دمع عليك. المزيد من مقالات د.فوزي فهمي