لم يحدث فى تاريخ السينما العالمية , أو العربية , أن عرض فيلم روائى عن إحدى الحروب القصيرة التى شهدها العالم الحديث , بعد نهاية هذه الحرب بسبعة أشهر، خاصة أننا أمام فيلم ضخم الإنتاج , يضم باقة كبيرة من النجوم , فى أدوار متعددة .وقد تم تصوير الفيلم بالعدسة «سكوب» رغم أنه أبيض وأسود . الفيلم هو «بور سعيد» لعز الدين ذو الفقار الذى عرض فى 8 يوليو عام 1957 , أى بعد إجلاء العدوان الثلاثى فى 23 ديسمبر 1956 ,وفى المناسبة الأولى للاحتفال بتأميم قناة السوبس أى أن الفيلم كان يتم إعداده أثناء المعركة , أو ربما تم إعداده وإخراجه كحدث إعلامى , ودعائى فى فترة قصيرة , والأحداث لا تزال ساخنة , وذلك باعتبار أن المعركة قد بدأت يوم 29 أكتوبر من نفس السنة، حيث تحل ذكراها غدا. وهكذا اصطبغ الفيلم السياسى الوطنى بطابع قومى , كى يكون لسان حال الوطن .. ويهمنى أن أتحدث عن انطباع شخصى , فقد رأيت الفيلم بعد أكثر من أربعين عاما على عرضه وأصابتنى رجفة شديدة للحس الوطنى والسياسى العالى فى الفيلم , خاصة وهدى سلطان تغنى أمام أبناء حى العرب فى بور سعيد « أمم جمال القنال». وقد جاء الفيلم ليؤكد أن النصر السياسى الذى حققته مصر بتأميم قناة السويس قبل ستين عاما , كان مدعما بالنصر العسكرى , وأن أبناء مدينة بور سعيد قد قاوموا المحتل الذى جاء ليسترد القناة بعد أن اعلن الرئيس عبدالناصر أنها شركة مساهمة مصرية , وحاربوه بكل ما لديهم من إصرار وقوة الشيوخ , والأطفال , والشباب والنساء , وأن المدينة خسرت رجالها . كما شهدت الخونة الذين حاولوا عرقلة مسيرة النصر . وسوف نلاحظ أن السينما المصرية لم تقدم فيلما واحدا بنفس القوة , والجودة عن تأميم قناة السويس وتوابعها, وعن بور سعيد , أو عن حرب السويس 1956 , أو ما عرفناه باسم «العدوان الثلاثى». حيث نرى أن الفيلم قد اتسم بأنه فيلم حربى وسياسى رأينا فيه المعارك وأيضا العمليات الفدائية , وفى إطار الفيلم سنرى قصص حب , وحكايات عائلية , وعالما يعكس المدينة بكل تياراتها , اشتركت فى الحرب وتجمعت من أجل صد العدوان على قناة السويس . هناك فيلم واحد أخرجه السيد بدير عام 1960 هو «عمالقة البحار» صور معركة البرلس الشهيرة التى استشهد فيها ضباط من البحرية السورية والمصرية ايضا من توابع تأميم القناة, لكن الفيلم كان مباشرا للغاية. وفى خريطة الأفلام التى دارت أحداثها عن توابع تأميم القناة , فإن الصور تختلف وتتباين , من أهم هذه الصور أن تأميم القناة , ثم العدوان الثلاثى كان موضوعا سينمائيا محببا فى الفترة التى مرت بعد الحرب مباشرة وحتى عدوان 1967 , وأن فترة توقف التصوير عن هذه الحرب كانت فى خلال السنوات الثلاث الأولى , أى حتى نهاية عام 1960 , ثم تباينت الصور , وصارت ديكورا لأفلام اجتماعية وطنية أو عاطفية , مثلما حدث من أفلام من طراز «لا تطفئ الشمس» لصلاح أبو سيف 1961, و «من أحب» إخراج ماجدة 1966 . ثم ظهرت أيضا فى خلفية الأحداث فى فيلم «ليلة القبض على فاطمة» لبركات 1984 .حتى رأينا كل ماكان يحدث فى ليلة تأميم القناة وجاء فيلم « بور سعيد « ليجمع أكبر عدد من الممثلين على الشاشة , ولعل السينما لم تشهد مثل هذا العدد من النجوم الكبار أو الممثلين , حتى مع فيلم من طراز «الناصر صلاح الدين» أو «خالد بن الوليد» ومن المهم أن نقتبس من الكلمة التحريرية الدعائية الإعلانية التى كتبت للفيلم , والمنشورة على صفحتين فى مجلة الكواكب – 9 يوليو 1957 – والتى ضمت حشدا من الصور تؤكد مدى ما ضمه الفيلم من حشود تمثيلية مصحوبة بعبارات وطنية حماسية . فقد جاء تحت عنوان « إلى زعيم الحرية جمال عبدالناصر» بتوقيع فريد شوقى : إن اللحظات التاريخية التى اجتازها شعب مصر خلال العدوان الثلاثى الغاشم أثبتت للعالم أننا شعب مجيد قاوم بربرية المستعمرين , وسطر فى التاريخ بنصره أروع مواقف البطولة وهو يكافح من أجل القيم الإنسانية, والحضارة والمستقبل.. ومن أجل أن يسود السلام والحرية والطمأنينة وأكثر. كان هناك دور ينتظر الفن .. دور أكبر مما قام به من خلال المعركة وهو يسجل وحشية المستعمرين وبربريتهم وخستهم وفظائعهم .. وقررت أن انتزع للفن القيام بهذه الكلمة الجليلة , فأنتجت فيلم «بور سعيد» الذى أقدمه اليوم مسجلا فيه ما ارتكبته قوى البغى والعدوان من همجية وبربرية ووحشية . إن فيلم بور سعيد سيقول للعالم المؤمن بحق الإنسان فى أن يعيش فى سلام بأنه رغم ما ارتكبته قوات الاستعمار الغاشم فى المدينة الباسلة بور سعيد , إلا أنها عاشت لتعلن للعالم أن الحرية ستنتصر فى النهاية» . وقد حكى الناقد عن ظروف تأليف الفيلم , فقال لأن فكرته جاءت لدى عز الدين ذو الفقار الذى كان راقدا تحت ضغط المرض , فى أحد أسرة مستشفى بور سعيد , وهناك رأى وأحس وشارك الأهالى محنتهم وبسالتهم , وحين عوفى من الروماتيزم وغادر المستشفى كان أول ما فكر فيه عز هو تسجيل مشاهداته ومشاعره فى فيلم . والفيلم جماعى الشخصيات كما ذكرنا , وطلبة ( فريد شوقى ) هو محور هذه الشخصيات , ويدور الحدث فى حى العرب ببور سعيد . وفى هذا الحى تعيش مجموعة أسر متجاورة يربطها الحب والألفة , منها أسرتان دفعتا لحرب فلسطين اثنين من الشهداء .. الأسرة الأولى مكونة من الضابط بحرى فتحى ( شكرى سرحان ) وشقيقته الضريرة وفية ( هدى سلطان ) . وقد نشأ الاثنان بعد أن حرما من عطف الأم , ومن رعاية الأب . فى حماية أم طلبة ( زينب صدقى ) , التى تعيش مع ابنها طلبة مدرب كتائب الحرس الوطنى , الذى يدرب الأطفال مثله حين يبدأ العدوان . وفى مقابل الأسر المصرية التى تعيش فى المدينة , يقدم الفيلم الأجانب , وبعض اليهود المصريين على أنهم خونة, منهم الطبيبة الإنجليزية الأصل المصرية النشأة , مس بات ( ليلى فوزى ) التى تنتمى إلى خلية تجسس لإرسال أخبار البلاد إلى إنجلترا , ثم هناك الجاسوس وليامز ( عز الدين ذو الفقار ) الذى تساعده مس بات , وأيضا مور هاوس ( أحمد مظهر ) الذى يقوم بتوصيل الرسائل السرية إلى لندن . ويصور الفيلم أن «بات» تحاول إلقاء شباكها على فتحى, من أجل أن تعرف منه كافة المعلومات, خاصة أن طلبة هو مدرب كتائب الحرس الوطنى .. أما شيكو الحلاق (توفيق الدقن), فنعرف أنه صهيونى خائن. وأنه يتجسس لحساب الأعداء فيتم القبض عليه. ويستغله الفدائيون ضد القوات المعتدية , ويفتدون به طلبة حين يتم القبض على خطيبته وفية . ومن المهم الإشارة هنا إلى أن شخصية شيكو كانت من أوائل الإشارات أن الصهاينة فى مصر خونة , وأنهم ساعدوا العدوان الإسرائيلى , وقد كان الهجوم المباشر على اليهود من قبل أمرا محظورا , حتى أن الأفلام التى تم إنتاجها عن حرب 1948 لم تكن تشير من أى زاوية إلى هوية ديانة الأعداء . وبدأ أول هجوم مباشر بعد أن سمحت السلطة السياسية بالهجوم المباشر على اليهود وطردهم من البلاد. وقدم الفيلم العديد من النماذج الجميلة للنضال , مثل صاحبة المقهى ( أمينة رزق ) التى تحول المقهى إلى مأوى لمن هدمت الطائرات والغارات بيوتهم , ثم أم لجندى باسل ( نعيمة وصفى ) , وابنها الشاويش محمد .. التى تسمع طلقات مدفعه , وتعرف إيقاعه لذا فهى تبدو كأنها تتنفس من عبير هذه الطلقات , وعندما يموت ابنها تموت هى الأخري. ويقف شيخ عجوز ( حسين رياض )معرضا صدره أمام القوات كى يدفع حياته ثمنا لكرامة الوطن , وينزل الأعداء إلى المدينة. وإذا كان «بور سعيد» قد عرض يوم 8 يوليو فإنه قبل أسبوعين من ذلك التاريخ كان قد عرض فيلم «سجين أبو زعبل» لنيازى مصطفى الذى أخذ عن حادثة حقيقية , حيث أغارت طائرات الأعداء على سجين أبو زعبل إلا أن أحد المساجين وجد القضبان محطمة أمامه لكنه رفض أن يستغل الفرصة , ويهرب , وبعد أن انجلت الغارة سلم نفسه إلى المسئولين فى شجاعة أدبية. وإذا كان فريد شوقى هو الذى أنتج فيلم «بور سعيد» فإن محمود المليجى هو الذى كتب قصة فيلم «سجين أبو زعبل» وأعد لها السيناريو السيد بدير, وقد وضع الفيلم قصة تقليدية , أشبه بالتى كان يكتبها محمود إسماعيل ويخرجها للسينما أو يقدمها لحسن الصيفى, مثل فيلم «زنوبة» أو «توحة» حول المكائد التى يقوم بها معلم فى حارة شعبية من أجل الزواج من فتاة يحبها , لا تعيره أى انتباه , وفى هذه الأفلام كان محسن سرحان بمثابة المشارك فى أدوار رجل الخير , أما الأشرار فيؤدى أدوارهم المليجى أو محمود إسماعيل, تاجر المخدرات والشرير الذى يرتكب الموبقات. وتدور الحكاية هنا حول حياة حسين المتهم البريء ( محسن سرحان ) القى به فى السجن بحق تاجر مخدرات ( استيفان روستى ) له عشيقة أجنبية ( منيرة سنبل ) أحبته , وكان التدبير فى التهمة لصاحب عربة نقل وشريك التاجر فى التهريب ( محمود المليجى ) الذى يحقد عليه بدوره , لأن حسين اعتدى عليه بالضرب يوم أن غازل شقيقته البريئة ( زهرة العلا ) . وهناك حكايات عديدة دارت خارج السجن , حول مؤامرات , وقبل أن ينتقم كل منهما من الآخر , تقع الغارة ولا يجد المساجين الجدران , فيهربون ويختلط الخاص بالعام , فحسين يود الانتقام ممن خدع أخته , وكان سببا فى إدخاله السجن , ويتوه الاثنان إلى مدينة بور سعيد , إلا أن المهرب يهرب إلى منزل الخواجة وتشتد الغارات على المدينة , ويهدم بيت العائلة تحت القنابل , وكانت الأخت والأم بداخله , فينطلق حسين باحثا عن غريمه ويعثر عليه , ويعرف أن الخواجة جاسوس لحساب الأعداء فيتعاونان معا على قتله بعد أن تصحو مشاعر الوطنية فى قلب المهرب الذى يموت أثناء المعركة . أما حسين فيسلم نفسه إلى المسئولين . ومن الواضح أن الحرب تمت كسوتها بظلال باهتة مع مرور الزمن , خاصة بعد حرب يونيو 1967 وانتصار أكتوبر1973 , وعلى المستوى الاجتماعى بدأت الدولة تضع حروبها الحديثة فى دائرة الاهتمام أكثر , وتم إلغاء الاحتفال الرسمى بذكرى 23 ديسمبر , وبدأت وقائع حرب 1956 تظهر كأنها حدث من الماضى . وإذا كان فيلم «ناصر 56» لمحمد فاضل 1996 قد توقفت أحداثه عقب تأميم القناة , والقاء الرئيس لخطبته فى الأزهر الشريف , قبل أن تبدأ وقائع الحرب على الجبهة فى مدينة بور سعيد قبيل الحرب وحتى نهاية السبعينات. وفى فيلم «ليلة القبض على فاطمة» لبركات 1984, كان البطل الرئيسى فى الفيلم هو جلال الذى كان يمارس بعض الأعمال المشبوهة مع الإنجليز إبان الهجوم علي مدن القناة . فهو يقوم بتوريد الأغذية للجيش فى الليل ويحقق ثراء كبيرا من عملياته , وأهمية هذا الأمر أن الفيلم ألقى بظلاله السياسية على مرحلة السبعينيات فهذه هى المرة الأولى التى نرى مصريا خائنا فى هذه الحرب الشعبية بالذات وباعتبار أن شيكو الحلاق فى فيلم « بور سعيد» كان يهوديا جاسوسا , أما جلال الانتهازى فإنه سوف يعتلى بعض أعلى المناصب السياسية فى مدينته , وفى القاهرة فى السبعينيات كأنه قد جنى ثمرات خيانته لبلده وقيامه بالمزيد من العمليات المشبوهة .