يمكن القول إن التنمية فى البلاد الغربية الرأسمالية صيغت على أساس المبدأ المقدس الذى بنيت على أساسه الرأسمالية منذ البداية على هديه وهو تحريم تدخل الدولة فى الاقتصاد وذلك على أساس أن «السوق» -وهو الآلية الأساسية فى الرأسمالية- يمكن أن يوازن نفسه بنفسه عن طريق «اليد الخفية» لو استخدمنا عبارة المنظر الرأسمالى الشهير «آدم سميث». غير أن قادة بعض الدول الرأسمالية أدركوا ببصيرة سياسية نفاذة أن إطلاق عنان القوى الرأسمالية بغير حدود يمكن أن يؤدى إلى اضطرابات اجتماعية واسعة المدى. ولذلك اتجهت هذه الدول إلى صياغة مذهب «دولة الرعاية الاجتماعية» The Welfare state التى تضمن الحد الأدنى من أجور العمال، بالإضافة إلى برامج شاملة للتأمين الصحى والاجتماعى. وقد نجح نموذج «دولة الرعاية الاجتماعية» الذى طبق فى فرنسا وإنجلترا وغيرهما من البلاد الأوروبية فى تثبيت الوضع الاجتماعى للطبقات العاملة والفقيرة والمتوسطة. غير أنه بعد سنوات مرّ نموذج «دولة الرعاية الاجتماعية» بأزمة كبرى لأن الدول زعمت أنها عاجزة عن تمويل البرامج الاجتماعية، ولذلك انطلقت دعوات القوى السياسية المحافظة تدعو لإلغاء هذه البرامج بالكامل. غير أنه فى نفس الحقبة التاريخية ظهرت دعوات من قبل بعض العلماء الاقتصاديين من أصحاب الفكر النقدى البصير تدعو إلى أن التنمية بغير تحقيق العدالة الاجتماعية لا جدوى منها، ومن أبرزهم المفكر الاقتصادى «شينرى» الذى أصدر فى السبعينيات كتابا بالغ الأهمية عنوانه «التنمية مع عدالة التوزيع». مرت هذه الحقبة التاريخية وانتقلنا إلى حقبة أخرى مختلفة تماما وذلك بعد هبوب عاصفة العولمة التى غيرت من أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية فى مختلف أنحاء العالم. وللعولمة تعريفات شتى غير أننا وضعنا لها منذ سنوات فى كتبنا تعريفا إجرائيا مفاده أن العولمة هى «سرعة تدفق الأفكار والمعلومات ورؤوس الأموال والبشر من مكان إلى مكان آخر فى العالم بغير حدود ولا قيود». ويمكن القول ان أبرز عناصر هذا التعريف هى سرعة تدفق الأفكار والمعلومات وذلك بحكم اندلاع الثورة الاتصالية الكبرى والتى مفرداتها الرئيسية هى البث التليفزيونى الفضائى واختراع شبكة الإنترنت. أما المفردة الأولى فقد أدت إلى أن يشاهد ملايين الناس فى مختلف أنحاء العالم الأحداث العالمية والإقليمية والمحلية فى وقت حدوثها الفعلى real time مما ساعد على تخليق وعى كونى عالمى ستكون له آثار كبرى سياسية وثقافية. أما اختراع شبكة الإنترنت فقد أدى إلى فتح مجال التواصل الإنسانى غير المسبوق فى تاريخ البشرية مما أدى إلى انهيار الحواجز الثقافية بين البلاد المختلفة، وقدرة الناس فى أى مكان فى العالم على الاتصال بغيرهم من البشر. وقد أدى عصر العولمة إلى انقلابات اقتصادية كبرى. فقد هيمنت الدول الغربية الغنية على الاقتصاد العالمى، وأجبرت الدول النامية على فتح حدودها أمام التجارة الدولية. بل وأخطر من ذلك أن العولمة وصلت إلى ذروة صعودها حين بلورت نظرية «الليبرالية الجديدة» والتى أدت عمليا إلى القضاء على القطاع العام فى البلاد النامية بعد نشر نظرية «الخصخصة»، وهكذا حرم الملايين من أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة من خدمات الدولة فى ميادين متعددة. غير أن خطورة تمدد الرأسمالية المتوحشة -التى لا تلقى بالا إلى المهمشين والفقراء وأبناء الطبقات الوسطى- أنها تحالفت مع نخب سياسة حاكمة فاسدة فى الدول النامية، والتى أقامت فى الواقع شبكات عضوية من الفساد جمع بين الطبقة الحاكمة ورجال الأعمال. وقد بلغ من سيطرة مذهب «الليبرالية الجديدة» Neo liberalism على مجمل الحركة فى العالم أنه بدأ يتشكل فى الوعى العام ما أطلق عليه اثنان من كبار المفكرين الفرنسيين هما «يير داردو و»كريستان لاال» «العقل الجديد للعالم» وذلك فى كتاب من أعمق الكتب التى صدرت بأى لغة من اللغات، وعنوانه الفرعى هو «مقال عن المجتمع النيو ليبرالى» (انظر الكتاب نشر لاديكورت، عام 2009) فكأنه أصبح لدنيا «عقل عالمى جديد» هو العقل النيو ليبرالى، ومجتمع جديد هو «المجتمع النيو ليبرالى». وفجأة وفى عز ّازدهار النيو ليبرالية وتعقد الأزمة المالية الكبرى فى الولاياتالمتحدةالأمريكية والتى كادت أن تدفع بالدولة الأمريكية إلى إعلان إفلاسها اضطر الرئيس الأمريكى «أوباما» إلى ضخ أكثر من 600 تريليون دولار لإنقاذ البنوك والشركات الرأسمالية الكبرى من الإفلاس. وقد قمنا بالتحليل المتعمق لهذه الأزمة فى كتابنا «أزمة العولمة وانهيار الرأسمالية» الذى نشرته دار نهضة مصر عام 2008 وفى هذا الكتاب وصفنا ما حدث بأنه ليس مجرد أزمة مالية بل إنه «أزمة اقتصادية» بمعنى سقوط النموذج المعرفى الاقتصادى الذى قامت على أساسه الرأسمالية الكلاسيكية ودعمته سياسة النيو ليبرالية والذى يقوم على منع الدولة من التدخل فى الاقتصاد. ولكن بعد أن دفع الرئيس «اوباما» من أموال دافعى الضرائب ألوف الملايين من الدولارات لإنقاذ الدولة من الإفلاس أصبح تدخل الدولة فى الاقتصاد ضرورة حتمية ولكن إلى أى مدى؟ لم يستطع أحد من علماء الاقتصاد الرأسماليين أن يجيب عن هذا السؤال حتى الآن. ولعل كل هذه الاعتبارات ونعنى «أزمة العولمة وسقوط الرأسمالية» هى التى أدت إلى بزوغ مفهوم «الدولة التنموية» التى تقوم على أساس قيامها بالتخطيط الاقتصادى بل وتنفيذ بعض المشروعات الأساسية مع عدم استبعاد القطاع الخاص. ولعل نموذج الدولة التنموية وجد تكريسا له أساسا فى اليابان الذى تسيطر فيه وزارة التجارة والصناعة MITI على مجمل النشاط الاقتصادى، ثم ظهور الصين من بعد باعتبارها دولة تنموية جبارة. وقد اعتمدنا على مصطلح «الدولة التنموية» فى وصفنا لنشاط الدولة فى مصر بعد ثورة 30 يونيو وتولى الرئيس «عبد الفتاح السيسى» رئاسة الجمهورية، وتأسيس المشروعات القومية الكبرى وأبرزها إنشاء قناة السويس الجديدة، والعاصمة الإدارية، ومشروع زراعة مليون ونصف المليون فدان بالإضافة إلى بناء مشاريع إسكان متكاملة لسكان العشوائيات. وقد شرحنا مختلف أبعاد الدولة التنموية فى الكتاب الذى أصدره المركز العربى للبحوث بالقاهرة والذى صدر بإشراف وتحرير «السيد يسين». وأردنا فيه أن نتوصل لمنهج التحليل النقدى للمشكلات المصرية مع تقديم سياسات بديلة مدروسة للسياسات التى ثبت فشلها. وأيا ما كان الأمر فيمكن القول -بدون أدنى مبالغة- أن الأزمة الاقتصادية التى ضربت الاقتصاد الأمريكى وأثرت على الاقتصاد العالمى كانت مؤشرا بارزا على نهاية عصر العولمة. والسؤال هو ما هى سمات ما بعد العولمة؟ قد تكون الإجابة هى بداية عصر الاضطراب العالمى. لمزيد من مقالات ◀ السيد يسين