تقشف، زيادة ضرائب، رفع الدعم خصخصة، مخاوف كثيرة تدور فى أذهان مواطنى أى دولة تنفتح فيها سيرة الاقتراض من صندوق النقد الدولي. وللقضاء على هذه المخاوف، يكفى استعراض تجارب الدول الأخرى فى التعامل مع صندوق النقد الدولي، للتعرف على مزايا وعواقب قرار الاقتراض، والحصول على فكرة عامة على كيفية اجتياز هذه الدول لتلك المرحلة الصعبة بنجاح، وأيضا أسباب فشل البعض الآخر فى هذا الصدد. بداية، يجب القول إن صندوق النقد الدولى يعتبر مؤسسة مالية متخصصة تعمل على دعم الاقتصاد العالمى الجديد وضمان استقرار النظام المالى العالمي، فبعد الحرب العالمية الثانية، أقيم مؤتمر «بريتون وودز» فى الولاياتالمتحدة سنة 1944 الذى تم فيه تأسيس «صندوق النقد الدولي»، ويدير الصندوق الدول الأعضاء فيه والتى يبلغ عددها 189 دولة، والمصدر الرئيسى لموارد الصندوق المالية هى اشتراكات الدول الأعضاء فيه، مع الأخذ فى عين الاعتبار أن للولايات المتحدة وحدها بين الدول الأعضاء فى الصندوق الحصة المسيطرة من الأصوات «حق الفيتو»، بمعنى أن أى قرار مهم يصدر من هذه المؤسسة المالية الدولية يتطلب فى المقام الأول موافقة واشنطن. وفى الوقت الذى تعجز فيه بعض الدول عن سداد ديونها، يلجأ صندوق النقد إلى جدولة ديونها وتوزيعها على عدد أكبر من السنوات مع فائدة جديدة أكبر من الفائدة الأصلية، بالإضافة إلى أنه يتدخل فى كافة سياساتها الداخلية لتنظيم اقتصادياتها، فى إطار ما يسمى ب»البرامج الإصلاحية»، مما يشكل فى كثير من الأحيان تهديدا مباشرا لهذه الدول ولسيادتها، ولكن هذا التدخل يحدث كما سبق الذكر فى حالة عجز الدول عن سداد ديونها، وتقتصر التدخلات «المسبقة» على توجيه «نصائح» فقط. ولا يمكن أن ننكر أن هناك الكثير من الدول التى تمكنت من سداد ديونها بالكامل لصندوق النقد، من بينها كوريا الجنوبية، ففى 1997، وبعد تعرض هذه الدولة لأزمة مالية طاحنة - عقب سقوط اقتصاديات بعض النمور الآسيوية - بسبب انخفاض قيمة العملات، لم تستسلم كوريا لواقعها المرير وقررت الاقتراض من صندوق النقد لكى تستمر فى طريق نجاحها الذى كانت قد بدأت فيه منذ 1945 عقب استقلالها من اليابان، وبالفعل، أجرت العديد من الإصلاحات الاقتصادية لرفع إنتاج مصانعها وللاستفادة من القوة البشرية لديها. ولم يقتصر تنفيذ حلم كوريا الجنوبية على خطط الدولة وإصلاحاتها، بل قرر المواطنون أيضا المشاركة بكل ما أوتوا من قوة، حيث شاركوا فيما يعرف ب«حملة الذهب القومية» فى 1998، وقدم الكوريون فى ذلك الوقت مقتنياتهم الذهبية لحكومتهم من أجل رفع المستوى الاقتصادى لها، وكانت تلك الروح القومية المحرك الأساسى وراء نجاح سول فى تسديد ديونها لصندوق النقد الدولى فى 2001. ومن المفارقات أيضا أن تجربة تركيا فى الاقتراض من صندوق النقد تعد من التجارب الناجحة أيضا، ففى 2002 تعرضت تركيا إلى أزمة أقتصادية شديدة جدا، حيث سادت مظاهر التقشف والفقر، وكان سبب ذلك انخفاض معدل النمو، مع تدنى قيمة الليرة، فى الوقت الذى رفعت فيه السلطات التركية قيمة الضرائب وأسعار الفائدة، وهو ما دفع الحكومة وقتها إلى الاقتراض من صندوق النقد لتنفيذ خطط الإنقاذ، وكان للمشروعات التى تعمل بنظام «بى أو تي» - حيث تعطى فيه الحكومة للمستثمرين عقودا لإنشاء أو تطوير المشروعات الكبيرة مقابل حصولهم على عوائد وأرباح هذه المشروعات لفترة محددة - دور كبير فى النهضة بالاقتصاد التركي، حيث اهتمت الدولة فى ذلك الوقت بالبنية التحتية، وبالتحديد مشروعات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، وهو ما أتاح الفرصة أمام جذب الاستثمارات، وتشجيع رجال الأعمال على فتح المزيد من المصانع للنهوض بإقتصادها وإيجاد فرص عمل جديدة، وبالفعل، استطاعت تركيا أن تنهض باقتصادها خلال فترة قصيرة، والتزمت بالمواعيد المحددة لإنهاء ديونها فى 2013. ومن بين الدول التى استطاعت أيضا سداد ديونها فى الموعد المحدد على سبيل المثال لا الحصر، البرازيل فى 2005، وروسيا والأرجنتين وأوروجواى فى 2006، ولاتفيا والمجر فى 2013، وكانت آخر هذه الدول مقدونيا ورومانيا وآيسلندا فى 2015. وعلى الجانب الآخر، ما زالت هناك 68 دولة من أصل 189 دولة مشتركة فى صندوق النقد مدينة له بحوالى 86 مليار دولار، ولم تسدد ديونها فى الوقت المحدد، وتعتبر تلك الدول من أعلى الدول استدانة من صندوق النقد، حيث يبلغ مجموع ديونها حوالي 72 مليار دولار، أى 86٪ من إجمالى المبلغ الذى تتداين به باقى دول العالم لصندوق النقد. وبعد ملاحظة هذه النماذج، سواء الناجحة أو الفاشلة منها، نجد أن قرار الحصول على قرض من صندوق النقد الدولى يتطلب فى المقام الأول من الدولة المدينة وجود دراسة جدوى واضحة وخطة محكمة لضمان تحقيق النجاح، والنجاح هنا ليس بمعنى ضمان سداد المبلغ المطلوب فى المدة الزمنية المقررة فقط، ولكن ضمان الربحية للمشروعات القومية وزيادة فى الناتج المحلى للدولة والخروج بنتائج مرضية لفترة زمنية طويلة. بمعنى لآخر، فإن الخطط الإصلاحية للدولة إذا بنيت منذ البداية على نظام غير سليم، وأسس تنموية غير دقيقة، فإن فشل سداد القرض سوف يكون المصير المحتوم. لذلك، تعتبر قوة إدارة الدولة وسيطرتها على الفساد ومحاربتها له داخل جميع مؤسساتها قبل البدء فى هذه الخطوة، وتنفيذ خطط التقشف، وبخاصة الإنفاق الحكومي، والاستهلاكي، هما الفيصل لإتمام نجاح فرصة الاقتراض من صندوق النقد الدولي، وتحقيق الفائدة المرجوة منه.