تشهد الأزمة الأوكرانية منذ أواخر نوفمبر 2025 حراكًَا دبلوماسيًا متسارعًا، مع دخول مرحلة جديدة من الاتصالات بين واشنطنوموسكو وكييف والعواصم الأوروبية، فى محاولة لوقف الحرب التى تدخل عامها الرابع بلا أفق واضح لإمكانية إيقافها. وفى خضم هذا الزخم، وجّه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين تحذيرًا جديدًا حادًا، مؤكدًا أن على القوات الأوكرانية «الانسحاب من كامل إقليم دونباس، وإلا فإن الجيش الروسى سيحرّر هذه الأراضى بالقوة»، وذلك وفق ما قاله فى مقابلة مع صحيفة إنديا توداى الهندية. اقرأ أيضًا | روسياوأوكرانيا على أعتاب تسوية الأزمة.. وكلمة الفصل بيد موسكو وتأتى تصريحات بوتين بعد أن قال الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إن فريقه المفاوض الذى يناقش خطة السلام الأمريكية يعتقد أن الرئيس الروسى «يرغب فى إنهاء الحرب» وذلك عقب محادثات الثلاثاء الماضى فى موسكو بين بوتين والمبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف الذى من المنتظر أن يلتقى فى وقت لاحق بالفريق الأوكرانى المفاوض فى فلوريدا. وكانت جهود الوساطة قد تكثفت بعد أن أعادت أمريكا صياغة خطتها الأولى للسلام وقدمت نسخة معدلة عبر مبعوثها ستيف ويتكوف، بينما تعمل روسيا على تعزيز مكاسبها الميدانية، وتطالب أوروبا بضمانات تقى أوكرانيا من أى تسوية قد تهدد سيادتها أو مصالحها الإستراتيجية. وقد شهدت الأسابيع الماضية اجتماعات مكثفة فى ولاية فلوريدا بين وفد أمريكى وآخر أوكرانى، وصفها المشاركون بأنها مباشرة وصعبة، لكنها ساعدت فى تحديد نقاط التباين الأساسية بين الجانبين، خصوصًا ما يرتبط بترسيم الحدود ومستقبل الجيش الأوكرانى ومدى ارتباط كييف بالتحالفات الغربية. وأكد الجانب الأمريكى أن هناك احتمالًا لإيجاد قواسم مشتركة، لكنه أشار إلى أن الطريق لا يزال طويلًا ومعقدًا، أما الجانب الأوكرانى فكرر أن سيادة أوكرانيا غير قابلة للتجزئة، وأن أى مقترح يتضمن التخلى عن أراض يظل مرفوضًا رفضًا قاطعًا. وبعد ذلك، انتقل المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف إلى موسكو لعقد جولة جديدة من الحوار مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين داخل الكرملين، ورغم أن اللقاء استمر 5 ساعات كاملة فإنه لم يحقق اختراقا، حيث رفضت موسكو بعض عناصر الخطة الأمريكية، لكن الاجتماع عكس حجم الرهان الأمريكى على قناة الاتصال المباشر مع بوتين. ويعد هذا الاجتماع السادس بين الطرفين خلال عام 2025، وهو ما يشير إلى تمسك إدارة الرئيس دونالد ترمب بمحاولة بناء تفاهم شخصى قد يسهم فى تقديم تنازلات متبادلة لاحقا، رغم أن المؤشرات الميدانية والسياسية لا توحى بقرب حدوث أى تحول جذرى. وفى موازاة الجهد الأمريكى، سعى الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى خلال زيارته الأخيرة إلى باريس إلى التأكيد على أن كييف منفتحة على النقاش، لكنها لن تقبل أى مبادرة سلام تمس سيادتها أو تنتقص من حقوقها على أراضيها. وخلال اللقاء الذى جمعه بالرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، شدد زيلينسكى على ضرورة وجود ضمانات أوروبية واضحة قبل المصادقة على أى اتفاق، مؤكدا أن مستقبل أمن أوروبا يرتبط بشكل مباشر بكيفية إدارة هذا النزاع. من جانبه، قال ماكرون إن أوروبا لا يمكن أن تبقى مراقبا، بل يجب أن تكون شريكا فى صياغة أى حل لضمان استقرار ما بعد الحرب، مشيرا إلى أن القارة دفعت ثمنا باهظا نتيجة الصراع على حدودها الشرقية. وتنظر العواصم الأوروبية بقلق متزايد إلى الدور الأمريكى، إذ تخشى بعض الدول من أن تمارس واشنطن ضغوطًا على كييف للقبول بتسوية سريعة تخدم مصالح موسكو. وأعرب مسئولون فى الاتحاد الأوروبى عن خشيتهم من تكرار أخطاء الاتفاقات التاريخية التى فرضت سلامًا هشًا، مثل اتفاقات بعض النزاعات فى التسعينيات، والتى انهارت لاحقا وأدت إلى عودة القتال. أما موسكو، فلا تزال التصريحات الرسمية الصادرة عن المسئولين الروس محملة بالضبابية، فبينما تعلن روسيا استعدادها للحوار، فإنها تتمسك بما تسميه مصالحها الوطنية، وفى مقدمتها الاعتراف بالأراضى التى تسيطر عليها، وتشير مصادر غربية إلى أن روسيا عرضت فى أكثر من مناسبة تجميد القتال على خطوط الجبهة الحالية مقابل قبول دولى بالأمر الواقع، وهو ما ترفضه أوكرانيا بشكل قاطع، معتبرة أن القبول بهذا المقترح سيؤدى إلى إضفاء شرعية على الاحتلال الروسى لأراضيها ويمهد لاندلاع دورات جديدة من الصراع مستقبلا. وفى ظل هذا التعثر، جاءت تصريحات الأمين العام لحلف الناتو مارك روته لتزيد المشهد تعقيدا، فقد أكد خلال اجتماع للحلف أن روسيا تواصل اختبار قدرة الردع فى أوروبا، مشيرا إلى خروق جوية بطائرات مسيرة ومقاتلات روسية، إضافة إلى عمليات تخريب وهجمات سيبرانية وسفن تجسس دخلت المياه الإقليمية لدول أوروبية. ووصف هذه الأنشطة بأنها متهورة وخطيرة، وقال إن موسكو تعمل بتنسيق وثيق مع الصين وكوريا الشمالية وإيران بهدف زعزعة الاستقرار الدولى والاستعداد لمواجهة طويلة مع الغرب. كما دعا روته دول الناتو إلى مضاعفة استثماراتها الدفاعية، مؤكدا أن أوكرانيا تحتاج دعما أكبر مع اقتراب فصل الشتاء وتزايد الهجمات الروسية على البنية التحتية. وبالنسبة لأوكرانيا، فإن موقفها المعلن ثابت لا يتغير وهو لا تنازل عن الأراضى ولا تفريط بالسيادة، وقد طلب زيلينسكى من واشنطن تنظيم لقاء مباشر مع الرئيس الأمريكى دونالد ترمب بمجرد صدور رد روسى رسمى على الخطة الأمريكية المعدلة، فى محاولة لضمان أن يكون الصوت الأوكرانى جزءا أساسيا فى صياغة أى اتفاق محتمل، ولتفادى أن يتم تجاوز كييف فى التفاهمات الكبرى. لكن رغم هذه الجهود، لا تزال الفجوات بين المواقف شاسعة، فروسيا تريد اتفاقا يثبت مكاسبها الميدانية ويضمن عدم توسع الناتو شرقا، بينما تخشى أوروبا أن يؤدى أى اتفاق سريع إلى سلام هش لا يصمد طويلا، أما أوكرانيا فترى أن أى حل يتطلب ضمانات أمنية قوية وتعهدا بإعادة إعمار المناطق المدمرة، فى حين تحاول أمريكا موازنة هذه الاعتبارات مع الحفاظ على زخم الوساطة التى أطلقتها. وفى ظل هذه المعادلة المعقدة، يبدو أن احتمالات التوصل إلى سلام شامل منخفضة فى المدى القريب، ومع ذلك، تتحدث مصادر دبلوماسية عن إمكانية التوصل إلى هدنة محدودة أو اتفاق لتجميد خطوط القتال إذا نجحت الجهود الدولية فى تجاوز بعض النقاط العالقة، لكن هذه السيناريوهات لا تزال هشة، وتعتمد بشكل كبير على تغير المواقف الروسية أو القبول الأوكرانى ببعض الترتيبات المؤقتة. أما إذا فشلت الجهود الحالية أو صعدت موسكو من شروطها، فإن احتمال عودة الحرب إلى مستويات أعلى يبقى واردا بقوة، ولا سيما فى المناطق الأكثر حساسية مثل خاركيف وزابوروجيا. وبذلك، يصبح المشهد الراهن اختبارًا إستراتيجيا لمستقبل الأمن الأوروبى ولمكانة أوكرانيا داخل النظام الدولى الناشئ، فى الوقت الذى يستمر فيه السباق الدبلوماسى بين واشنطنوموسكووباريس وبروكسل من دون ضمانات حقيقية لتحقيق اختراق كبير.