أنتمي إلي جيل عرف معني انهيار الحلم وعاني مرارة الهزيمة في 1967، إلا أنه صمم علي الخروج من تحت الحطام، وامتلك الإرادة لمحو العار وتحقيق النصر في حرب أكتوبر 1973. أبناء جيلي يتذكرون جيدا كيف اقترن التخطيط والإعداد العسكري للحرب بتخطيط وتعبئة موازية علي الصعيد الاقتصادي. يتذكرون كيف تم إغلاق باب استيراد السلع الكمالية وإغلاق شارع الشواربي، الذي كان يمثل أشهر منفذ لبيع الملابس المستوردة لعلية القوم في مصر. يتذكرون كيف تم الاعتماد علي إنتاجنا المحلي وشركاتنا ومؤسساتنا العامة كي يتمكن كل أبناء الشعب من الحصول علي احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والكساء والمسكن والتعليم والعلاج، بأسعار في متناول الجميع، رغم متطلبات الإنفاق علي التسليح والإعداد للحرب. احتفالاتنا بانتصارات أكتوبر هذا العام تأتي ونحن نخوض، علي صعيد الجبهة الداخلية، معارك يومية متتالية في مواجهة قوي مضادة تحرص علي خلق الأزمة تلو الأزمة، في إصرار علي تحطيم البقية الباقية من قدراتنا الإنتاجية وإشاعة روح الإحباط واليأس وامتصاص دمائنا وتحويلها إلي أرباح تتراكم في خزائنها. هل يعقل أن نواجه نقصا في الأرز المتاح في الأسواق وتلتهب أسعاره في حين أن هناك فائضا في الإنتاج يقدر بنحو 1.2 مليون طن؟ هل يعقل أن يكون لدينا هذا الفائض وتضطر الحكومة إلي تدبير النقد الأجنبي لاستيراد 500 ألف طن؟ الوزارة سبق أن أعلنت منذ شهرين عن الأسعار التي تطرحها لشراء الأرز الشعير، وفتح الباب أمام المزارعين لتوريد 2 مليون طن لمطاحن القطاع العام، بهدف تكوين احتياطي استراتيجي لهيئة السلع التموينية يؤمن توفير الأرز المدعم علي مدي العام لحائزي البطاقات التموينية. ممثلو الفلاحين ومركز البحوث الزراعية وغرفة صناعة الحبوب باتحاد الصناعات أعلنوا جميعا ترحيبهم بأسعار التوريد التي عرضتها وزارة التموين وأكدوا أنها تتناسب مع الارتفاع في تكاليف الإنتاج. المفاجأة أن إجمالي ماتم توريده للمطاحن لا يتجاوز ربع الكمية المطلوبة. المزارعون أحجموا عن توريد الأرز الشعير لوزارة التموين لأن التجار تقدموا للشراء منهم بسعر أعلي. طبعا يمكن للبعض أن يقول إن هذه هي قواعد المنافسة. ولكن المشكلة أننا عشنا تداعيات هذا السيناريو العام الماضي. أباطرة التجارة قاموا بشراء الأرز وتخزينه وإحكام السيطرة علي السوق بحيث انتهي الأمر إلي رفع سعر التوريد للهيئة العامة للسلع التموينية، و تصاعدت الشكوي من عدم توافر الأرز المدعم وارتفاع أسعار الأرز الحر. اليوم يتكرر نفس السيناريو.. تتساءل وأتساءل معك لماذا لم تلجأ الحكومة منذ بداية الموسم إلي التعاقد مع المزارعين علي الكميات التي ترغب في شرائها؟ الحكومة أصدرت قرارا بمنع تصدير الأرز بحيث تكون الأولوية لتغطية احتياجات السوق المحلي. التجار يحتجون. ارتفاع سعر الدولار جعل المعادل بالجنيه المصري كبيرا وهامش الربح مغريا، فماذا يهم لو لم يتوافر الأرز في الأسواق أو تشتعل الأسعار؟. المعركة الأخري تتعلق بأزمة السكر الذي ارتفعت أسعاره فجأة لتصل إلي الضعف، مع نقص المتاح منه في الأقاليم. أزمة السكر تمثل انعكاسا للضربات التي تم توجيهها لصناعة السكر الوطنية. الإفراط في الاستيراد، علي حد تعبير رئيس جهاز حماية المنافسة ومكافحة الاحتكار، أدي إلي تراكم المخزون في مصانع إنتاج السكر وعدم القدرة علي تصريفه خلال العام الماضي. رئيس شركة الدلتا للسكر صرح في ديسمبر 2015 بأن المخزون الراكد يكفي لتغطية الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك حتي نهاية عام 2016، بخلاف إنتاج الموسم الجديد. الأزمة الحالية تطرح العديد من الأسئلة. ماهي صحة ما يتردد عن قيام الشركة القابضة للصناعات الغذائية ببيع المخزون الاستراتيجي للسكر الذي جري العمل علي الاحتفاظ به، مما جعلها تفقد أي قدرة علي المناورة في مواجهة التجار؟ وإذا كان أباطرة التجارة يقومون بحجب السكر وتعطيش السوق فلماذا لا تلجأ هيئة السلع التموينية إلي شراء المخزون الراكد لدي الشركات العامة؟ وإذا كانت شعبة المواد الغذائية باتحاد الصناعات سبق وأن أعلنت بناء علي حسابات التكلفة وهوامش الربح المجزية أن سعر كيلو السكر الحر يمكن أن يطرح في الأسواق بما يتراوح بين 5 جنيهات و5.25 جنيه كحد أقصي، فلماذا تعلن الشركة القابضة للصناعات الغذائية أنها ستبيع السكر لشركات التعبئة بسعر 6.5 جنيه للكيلو ليباع للمستهلك بسعر 7.5 جنيه؟. ما أحوجنا إلي استعادة روح أكتوبر. ما أحوجنا إلي التخطيط الواعي واستعادة قدرات مؤسساتنا الاقتصادية الوطنية لتكون سلاحنا في معارك الجبهة الداخلية. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى