نشر الدكتور محمد نور فرحات زميلى القديم فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية مقالات يتحدث فيها عن نشأته العلمية كباحث فى هذا المركز العتيد الذى أسسه أستاذنا الجليل دكتور أحمد محمد خليفة والذى يعد رائد المراكز القومية الاجتماعية فى الوطن العربى. وأعتقد أن كتابات السيرة الذاتية للباحثين العلميين فيها فوائد متعددة، لأنها تلقى بالأضواء على مؤسسات المجتمع الذى نشأ فيه الباحث، وهو فى هذه الحالة المجتمع المصرى فى عصر ثورة 23 يوليو 1952، والتى قادها باقتدار الزعيم جمال عبدالناصر. وقد غير الدكتور نور فرحات مساره الأكاديمى بعد سنوات عمل فيها خبيرا بالمركز القومى للبحوث، وأصبح أستاذا لفلسفة القانون بجامعة الزقازيق. ويلفت النظر بشدة أن الدكتور فرحات استعرض الإنجازات التى حققتها ثورة يوليو 1952 فى مجال البحث العلمى التى تتمثل فى إنشاء قادتها لعديد من مراكز الأبحاث فى العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، غير أنه صاغ حكما غير موضوعى بالمرة على مسيرة الثورة حين قرر أن الدولة «كانت» تقيم المنشآت العلمية كواجهات زخرفية تتزين بها فى حين تتخذ قراراتها بعيداً عن أى رؤية علمية. وهذا الحكم غير الموضوعى يتجاهل الجهود العلمية التى قامت بها فرق بحثية مختلفة فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية والتى كانت تعرض نتائجها فى مؤتمرات قومية سنوية يعقدها المركز، وكانت أساساً لإصلاحات تشريعية شتى فى مجال المؤسسات العقابية والاجتماعية. كما أن الثورة أنشأت معهد التخطيط القومى والذى أصبح من أهم المراكز الاقتصادية التى تقدم الخبرة فى مجالات متعددة لصانع القرار، ومن هنا يمكن القول إن الدكتور فرحات يظن وهما أن الدول المتقدمة كما أشار التى تعتمد على مراكز الأبحاث فى اتخاذ قراراتها هى النموذج الذى ينبغى أن يحتذى بالنسبة لبلد كمصر. ووجه الخطأ الجسيم فى هذا الحكم المتعجل أن الدكتور فرحات لم يدرك أن النظم السياسية المتعددة فى العالم الذى يحدد اتجاهاتها ليس البحث العلمى ولكن المصالح الاستراتيجية للبلد كما تدركها نخبة سياسية حاكمة فى لحظة تاريخية ما. وحتى لا يكون حديثنا على سبيل التجريد، فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية لديها أكبر شبكة من مراكز الأبحاث الاستراتيجية فى العالم، وتعتمد عليها النخبة السياسية الأمريكية الحاكمة فى تحديد مصالح الدولة الأمريكية الاستراتيجية، والتى تتلخص فى كلمة واحدة هى الهيمنة العالمية، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتى واستعمار شعوب العالم الثالث واستنزاف ثرواته. والإدانة المطلقة للإمبريالية الأمريكية - التى منذ قيام الدولة الأمريكية تقوم على غزو الشعوب - صدرت من كبار المفكرين الأمريكيين التقدميين الذين لم ينخدعوا فى حكاية الاعتماد على البحث العلمى فى صنع القرار، ومن أبرز هؤلاء أشهر عالم لغوى فى القرن العشرين وهو «نعوم شومسكى» والذى أصدر كتاباً بالغ الأهمية أنصح الدكتور فرحات أن يقرأه وعنوانه «سنة 501 الغزو مستمر» وهو يعنى بذلك أنه منذ القضاء على الهنود الحمر ومحاولات الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تتوقف عن غزو العالم، ويكفى بهذا الصدد أن نشير إلى إلقاء الولاياتالمتحدةالأمريكية القنبلة الذرية على اليابان بغير حاجة عسكرية لذلك بعد أن هزمتها، وذلك لتأكيد سيطرتها على العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وإذا كانت النخبة السياسية الحاكمة هى التى تحدد المصالح الاستراتيجية للدولة فيثور السؤال ما هى هذه المصالح التى حاولت قيادات ثورة 23 يوليو تحقيقها؟ هى ثلاث مصالح رئيسية وهى الاستقلال الوطنى وحرية اتخاذ القرار، وتطبيق سياسات العدالة الاجتماعية، وأخيراً تحقيق الوحدة العربية. ولا يمكن على وجه الإطلاق الزعم أن قيادات يوليو لم تعتمد فى تحديد هذه المصالح الاستراتيجية على البحث العلمى، ويكفى فى هذا أن نشير إلى أن الرئيس جمال عبدالناصر قبيل اتخاذ قراره بتأميم قناة السويس اعتمد على جهود باحث مصرى وطنى هو الدكتور الحفناوى الذى أعد رسالة للدكتوراة فى فرنسا عن القناة نشأتها وتطوراتها، وكان حجة فى مجاله. ويمكن القول أيضا إن قوانين الإصلاح الزراعى التى طبقت للقضاء على النظام شبه الإقطاعى فى مصر اعتمدت على بحوث علمية متعددة، كما أن خطتى التنمية الأولى والثانية قامتا على أساس خبرات علمية مصرية معتبرة. ومن هنا يمكن القول إن بعض الأحكام التى أوردها الدكتور فرحات فى مقاله «الشعب فى تفكير والحكم فى التدبير» جريدة المصرى اليوم فى 12/8/2016 لا أساس لها للأسف الشديد» وهو قد ذكر أنه فى مؤتمر المبعوثين الذى عقد عام 1966 وقف السيد يسين مطالباً قادة 23 يوليو وعلى رأسهم جمال عبدالناصر بتطبيق المنهج العلمى فى اتخاذ القرار، وهذه الواقعة لم تحدث، وذلك لأن هذا المؤتمر التاريخى تطرق لموضوعات متعددة أهمها بروز مراكز القوى، وانسداد الطريق الديمقراطى، ولم تكن هناك أدنى إشارة إلى تطبيق المنهج العلمى. أما الحكايات المفبركة عن قيام بعض كبار رجال الدولة بعد إغلاق خليج العقبة بتحضير روح القائدين العسكريين «مونتجمرى» وبروميلب لسؤالهما عن كيفية مواجهة الإسرائيليين ففيها إساءة متعمدة لنخبة سياسية مصرية وطنية اجتهدت فأصابت أحيانا وأخطأت أحياناً أخرى. وأننى أسأله ما رأيه فيما صرح به الرئيس الأمريكى السابق بوش الابن - وهو رئيس أقوى دولة عالمية - من أنه يستوحى قراراته من الله سبحانه وتعالى؟ وأيا ما كان الأمر، فيمكن القول إن ما أثاره الدكتور فرحات من قضايا ومسائل بالغة الأهمية وهى تحتاج منه ومن غيره من الباحثين اطلاعاً أعمق على أسرار عملية صنع القرار الاستراتيجى فى البلاد المتقدمة، ويكفى أن أشير إلى أننى بحكم خبراتى العلمية المتراكمة فى مجال الأبحاث الاستراتيجية واطلاعى الدائم على أحدث التقارير المنشورة أطلعت مؤخراً على أربعة تقارير أساسية صدرت عام 2016 وضعتها مؤسسة اراندب الأمريكية - والتى تمثل العقل الاستراتيجى الأمريكى - لكى توضع أمام الرئيس أو الرئيسة الأمريكية الجديدة. هنا فعلاً الاعتماد على البحث العلمى، ولكن لخدمة المصالح الاستراتيجية الأمريكية التى تقوم أساساً على الحماية المطلقة للأمن الاسرائيلى، والتفكيك المنظم للعالم العربى. ومن هنا يمكن القول إن القضية ليست استخدام المنهج العلمى، ولكن لتحقيق أى مصالح استراتيجية؟ ومدى اتفاق هذه المصالح مع اعتبارات السلام العالمى وإتاحة الفرصة لشعوب العالم لكى تنمو وتتطور فى ظل مذهب إنسانى مستنير مبناه أن الإنسان هو الإنسان فى كل مكان يسعى إلى الأمن والسلام قبل أى شىء آخر! لمزيد من مقالات السيد يسين