لا يدرك بعض المراقبين لحركة السياسة الخارجية المصرية اليوم، ومنهم من يطلق على نفسه لقب خبير إستراتيجي، أن هناك مقتضيات لكثير من الأحداث والتفاعلات التى تبدو مفاجئة فى مظهرها الخارجى ولكنها ليست كذلك لمن يحسن قراءة المشهدين الإقليمى والدولى فى السنوات الأخيرة التى فرضت علينا تقلبات لم تكن محسوبة وقرارات لم نكن مستعدين لها فى غمرة فوضى نشبت فى جسد المنطقة العربية وتأبى الأطراف الفاعلة إخمادها قبل أن تحقق أكبر فائدة ممكنة وبالأخص الدول التى تريد الانتفاع من تلك الفوضى وتوظيفها لمصالحها. اللعبة الكبرى التى حكمت منطقة الشرق الأوسط لعقود طويلة مازالت تفرض نفس قواعدها القديمة وأولياتها، رغم تغيير الأبطال، ومازالت أيضا كما هى دون إبداع أو خيال جديد والقوى الكبرى تخرج للكل ألسنتها دون مواربة. يأتى الصراع على النفط والغاز العربيين والتنافس على مناطق النفوذ بين قوى عالمية وأخرى إقليمية تقع خارج العالم العربى فى مقدمة تلك الأولويات وما يستتبعه من وجود هيمنة بحرية للولايات المتحدة ومحاولة قوى أخرى الدخول على خط القوة الأمريكية فى الخليج العربى وفى منطقة البحر المتوسط من أجل تغيير قواعد اللعبة أو مساومة واشنطن على قدر من السطوة والهيمنة. ضمان أمن إسرائيل مازال الشغل الشاغل للدوائر الغربية وفى ظل غياب التنسيق العربى يكون العبء مضاعفا من أجل إنجاز هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة فى المستقبل المنظور بعد أن أثقلت نتائج ما سمى بثورات الربيع العربى كاهل الحكومات والشعوب بجهد مضاعف وتراجع الاهتمام بالقضية المحورية فى الأمن القومى العربى إلى مرتبة تالية. ولو أضفنا إلى أولويات القوى الكبرى مسألة احتواء ظاهرة الإسلام السياسى فى منطقة الشرق الأوسط وما فعلته تلك السياسة من تدمير لمقدرات المنطقة العربية من خلال أساليب حمقاء لتمكين جماعات دينية سياسية من الحكم من أجل إنهاء الخيار القومى العربى وبناء أسطورة وهمية من الإسلاميين الموالين لمصالح القوى الغربية لأدركنا خطورة ما نحن فيه على مستويات عدة. فقد كنا قبل ثورات الربيع المزعوم نتحدث عن إمكان إصلاح منظومة الأمن القومي العربي وتصويب مسارها أو علي الأقل استعادة زخم ما جري في أثناء حرب أكتوبر المجيدة من تنسيق بين الحكومات العربية في مواجهة إسرائيل وقوي كبري داعمة لها. أمام تلك المعطيات الماثلة للجميع وعدم تبدل قواعد اللعبة كثيرا، وفي ظل ضعف الجبهة العربية في مواجهة المخاطر التي نتعرض لها، يكون السؤال الحتمي في تلك الحالة: ما الذي يتعين علي مصر أن تفعله؟ وهل نملك خيارات حقيقية لمواجهة الفوضي الضاربة في جنبات العالم العربي؟ وهل الحكومات العربية قادرة علي توفيق أوضاعها في المستقبل القريب لاستعادة ولو جزءا من القوة العربية التي أهدرتها المواجهات والحروب الداخلية في دول مركزية في النظام العربي وفي مقدمتها سوريا والعراق؟ إن واحدا من أصعب خيارات السياسة الخارجية المصرية في المرحلة الراهنة هو محاولة الخروج من تلك الحالة العبثية عربيا من أجل بناء إجماع جديد علي القضايا الرئيسية التي توحد الصف العربي. فنحن نتحرك في دائرة إعادة تقويم قضية الأمن القومي العربي ونعمل مع دول محورية في النظام العربي، وعلي رأسها السعودية، من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه حتي لو كانت هناك فروق في النظرة إلي بعض القضايا إلا أن تلك هي طبيعة المصالح الوطنية التي تختلف بين دولة وأخري وفقا لما تراه السلطة السياسية. وقد كانت التفاهمات الأخيرة مع الرياض والاتفاق علي التنسيق الكامل مع القاهرة في عدد من الملفات هى مقدمة لاستعادة التوازن، ليس فقط في ملفات سوريا واليمن وليبيا ولكن أيضا في محاولة بناء منظور أشمل للأمن الإقليمي بعد أن برهنت الفوضي الجارية على أن الخيار الوحيد أمامنا هو استيعاب دروس التجارب المريرة التي نمر بها ووقف التشرذم الحاصل. وقد اتفق البلدان علي أن توحيد الرؤي ليس خيارا ولكنه ضرورة حتمية. فعملية ترميم النظام العربي ليست هينة أو سهلة، ولكنها واحدة من أصعب المهمات التي يتحسب لها الرئيس عبد الفتاح السيسي ويعمل مع القيادة السعودية علي إتمامها قبل أن يستفحل الضرر. وما لا يمكن إنكاره أن الدعم السعودي لمصر، سياسيا واقتصاديا، هو تقوية لتلك الجبهة التي تسعي لاستعادة التنسيق الرفيع المستوي بين الدول المحورية في النظام العربي. عندما تناولت في الأسبوع الماضي دور الجامعة العربية في إعادة بناء النظام العربي علي أسس جديدة، قصدت أن أدق ناقوس الخطر كون الكيان الجامع لأحلام وطموحات الأمة يفتقر إلي أبسط مقومات بقائه اليوم ألا وهو وجود رغبة عربية أصيلة في منحه أولوية مركزية في التخطيط لمستقبل جديد في ظل مشهد عالمي تمنح فيه التجمعات الإقليمية موقعا متقدما لم نر مثله في تاريخ الأمم من قبل. ولعل زلزال ما بعد تصويت البريطانيين علي الخروج من الوحدة الأوروبية يبرهن علي أن التجمعات الإقليمية ليست مجرد اتفاق علي إنجاز أهداف قطرية بقدر ما هو حالة من التوافق الواسع علي قضايا مصيرية تمتد من السياسة الداخلية إلي السياسة الخارجية. ودور الدول المحورية في العالم العربي هو أن تستوعب الدرس الأوروبي وأن تشكل فيما بينها مجموعة رئيسية تقوم بدراسة وافية لكيفية رسم دور جديد للجامعة حتي لو كانت الصورة قاتمة في محيطنا، فإذا لم تقم تلك الدول بالدور المرجو والحتمي فلن تقوم للعرب قائمة في المستقبل وربما تختفي الكلمة من القاموس السياسي في المستقبل! مازالت مصر هي حجر الزاوية في أي تسوية محتملة للقضية الفلسطينية وبدون تحرك منها لن يكون هناك حراك محتمل. وقد جرب البعض أن يلعب الدور المقصود دون أن ينجح في تحقيق تقدم ولو لخطوة واحدة، لأن القضية الفلسطينية تحتاج إلي دور مركزي للدولة العربية الأكبر وهو اعتبار إستراتيجي تمليه الضرورة وليس مجرد خيار علي مائدة التفاوض. والمثير للاستغراب أن الأصوات من دعاة حماية الوطنية والقومية لم تقدم بدائل حقيقية علي أي صعيد ودون أن تستفيد الأمة العربية من مواقفهم المتشددة بينما الأرض العربية تضيع والمجتمعات العربية تتمزق والأنظمة تسقط بفعل فاعل وهم جالسون في مقاهيهم أو خلف أجهزة الكمبيوتر يناضلون علي طريقتهم الخاصة. لا تعطي القيادة المصرية لردود الأفعال المهزوزة أو لتكرار العبارات الجوفاء التي لا تقدم ولا تؤخر اهتماماً اليوم، ولكنها تنظر إلي ما يحقق المصالح الوطنية والعربية عن إيمان بأنها تحمل علي عاتقها مسئولية ثقيلة لا تحتمل إشاعة مناخ اليأس والشعور بالعجز عن الفعل. وقد قال الرئيس السيسي في حوار مفتوح مع طلاب البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة أمس الأول، الأربعاء، إن «مصر تسير علي الطريق الصحيح ونرفض أي دعاوى للإحباط والتشكيك في قدرة الدولة المصرية.. وإن مصر قد استعادت مكانتها الدولية ووضعها كقوة إقليمية تتمتع بثقلها السياسي والاقتصادي». مصر لا تدخر وسعا اليوم في تحركها لاستعادة الزخم والحيوية لدوائر السياسة الخارجية التي تعطلت في السابق, ومشاركة الرئيس السيسي في القمة الإفريقية التي تبدأ الأحد المقبل في كيجالي عاصمة رواندا ثم القمة العربية المرتقبة في موريتانيا، هى تأكيد لعودة الدور المصري الفاعل في محيطها الإفريقي والعربي، وفي تلك المشاركات المتتالية تضع مصر أساسات جديدة لسياسة خارجية تقوم علي ترسيخ مفاهيم العمل المشترك ووحدة المصير والأهداف، وهي لا تتواني عن مد يدها للجميع من أجل استعادة الاستقرار والسلام وهي سياسة مصرية لا نحيد عنها لأنها تنبع من رؤية أصيلة وراسخة تليق بمصر الكبيرة التي استعدناها في ثورة 30 يونيو. حان وقت أن تحلق مصر بعيدا عن دوائر الفراغ العربي وحان وقت دور مصري مبتكر وخلاق من أجل مصالح تلك الأمة وحماية لمستقبلها.