قضية علاقات مصر مع دول حوض النيل وإثيوبيا في القلب منها لا يسبقها في الأهمية قضية أخري, كما أنها قضية ضخمة من حيث الحجم, ناهيك عن كونها متعددة الجوانب: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإعلاميا, بالإضافة إلي تداخل هذه الجوانب ببعضها البعض فمن الذي يمكنه أن يقرر من أين ينتهي السياسي ليبدأ الاقتصادي؟ ومن أين ينتهي الاقتصادي لكي يبدأ الاجتماعي؟ ومن أين ينتهي كل ذلك, لكي يبدأ الإعلامي؟ وعلي أية حال, فإنني في هذا المقام, سألزم نفسي بالجانب الإعلامي الذي يتماس مع الجوانب الأخري. في العام2004 سعدت بالذهاب إلي إثيوبيا, ذلك البلد الجميل شعبا وأرضا; حضارة وقيما, وهو الذي يعد الأقرب لشعب مصر والسودان علي كافة الأصعدة, بما في ذلك الملامح الجسدية. إلا إنه بقدر سعادتي بوجودي في بلد لم أشعر فيه بالغربة الحضارية, ولا الإنسانية, فإنني صدمت من تلك الصور الذهنية شديدة السلبية التي لا علاقة لها بحقيقة مصر من حيث اتهامها من جانب البعض بالوقوف ضد المصالح الاقتصادية لإثيوبيا تارة, وبالتعلق بميراث إمبريالي استعماري تارة أخري. وتاريخ مصر القديم والحديث والمعاصر يزخر بما ينفي هذه الصورة الذهنية, بل يثبت عكسها تماما, إلا أنني في هذا المقال سألتزم بوقائع موثقة من التاريخ الحديث, وذلك قبل أن أتحدث عن التاريخ المعاصر في مقال قادم. هل يعلم الشعب الإثيوبي الشقيق أن مصر ممثلة في البنك الأهلي المصري هي التي أقامت أول نظام مصرفي اقتصادي ومالي حديث في إثيوبيا بإنشائها بنك الحبشة في العام1905 وذلك في زمن الخديو عباس حلمي الثاني والإمبراطور منليك رحمهما الله؟ وقد جاء بنك الحبشة فرعا للبنك الأهلي المصري, حيث تولي فيما تولي مسئولية سك العملة, وطبع الأوراق المالية, والتبادل الحر في الذهب والفضة, وتخزين البضائع, واستثمار المال العام, بمعني آخر كان بنك الحبشة بمثابة البنك المركزي والتجاري الوحيد في إثيوبيا, وقد كانت جمعيته العمومية تعقد في مقر البنك الأهلي في وسط مدينة القاهرة؟ وهل يعلم الإخوة الإثيوبيون أن مصر قامت بتسليم هذا البنك في العام1931 طواعية إلي الحكومة الإثيوبية تسليم مفتاح بعد أن بلغ أشده؟ هل يعلم الإخوة في إثيوبيا مدي الحفاوة الشعبية قبل الرسمية التي استقبلت بها الأميرة مينين زوجة ولي العهد الإثيوبي راس تفري ماكونين الإمبراطور هيلاسيلاسي فيما بعد خلال زيارتها مصر في عام1923, وذلك قبل أن تصل هذه الحفاوة إلي قمتها خلال زيارة ولي العهد في عام1924 لدرجة أن جموع الشعب كادت أن تحمل السيارة التي كانت تقله إلي مقر إقامته في فندق شبرد المطل علي نيل القاهرة, وقد تكرر هذا المشهد الشعبي في كل مدينة زارها الراحل العظيم بداية من الإسكندرية شمالا إلي أسوان جنوبا, ومن دون أية ترتيبات رسمية؟ هل يعلم الإخوة الإثيوبيون أن الملك فؤاد حاكم مصر في ذلك الوقت حرص خلافا لقواعد البروتوكول علي استقبال ولي العهد الإثيوبي شخصيا, وأن يمنحه أعلي أوسمة الدولة المصرية وهو الوشاح الأكبر من نيشان محمد علي, في حين منحه ولي العهد نيابة عن الإمبراطورة زوديتو الوشاح الأكبر من نيشان سليمان؟ هل يعلم إخوتنا في إثيوبيا أن قيادات الدين الإسلامي في مصر احتجوا علي استئثار المزارات القبطية بزيارات الراحل العزيز والجليل راس تفري ماكونين, من منطلق رغبتهم في الترحيب بالرجل الذي قام جده الأكبر بإجارة المسلمين الأوائل الفارين بدينهم من اضطهاد قريش في الجزيرة العربية في القرن السادس الميلادي؟ و هل نعلم ويعلم إخواننا في إثيوبيا أنه عندما بدأت إيطاليا تتنمر لإثيوبيا, وبالرغم من حالة الوفاق بين لندن المستعمرة لمصر وروما, فإن الحكومة المصرية تبرعت بمبني في بورسعيد يطل علي مدخل قناة السويس ليكون قنصلية إثيوبية في الظاهر, ولكنه كان مركزا مخابراتيا ومحطة استطلاع إثيوبية لرصد القطع الحربية الإيطالية المتجهة جنوبا استعدادا للعدوان علي إثيوبيا؟. وهل نعلم أن ثورة شعبية عارمة اندلعت في مصر في شكل مظاهرات مع بدء العدوان الإيطالي دافعة الحكومة المصرية لإلغاء جوازات سفر العمال المصريين الذين كانت إيطاليا تستأجرهم للعمل في قواعدها العسكرية في شرق إفريقيا, كما طالبت المظاهرات الحكومة بإلغاء حقوق المرور الجوي للطائرات الإيطالية في أجواء مصر؟ وهل نعلم بأن عثمان باشا محرم وزير الأشغال الأشهر والمعروف بصداقته وعلاقاته القوية علي أعلي مستوي مع كبار الساسة البريطانيين, سافر عقب العدوان إلي لندن, حيث اجتمع مع الساسة البريطانيين حاثا إياهم علي التدخل ضد العدوان علي إثيوبيا؟ هل نعلم أن الدكتور عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين أسس في أغسطس من العام1935 جمعية ضمت كبار رجال الدولة, والعديد من المتخصصين في كافة المجالات لنصرة إثيوبيا, بما في ذلك رجال الدين الإسلامي؟ وقد طالبت الجمعية في أول بيان لها بإغلاق قناة السويس في وجه القطع البحرية الإيطالية؟ وهل نعلم أن تلك الجمعية رأسها الأمير إسماعيل داود من العائلة المالكة, وتحت رعاية الأمير عمر طوسون, في حين ترأست السيدة هدي شعراوي اللجان النسائية في الجمعية؟ هل نعلم أن اللجنة أرسلت وفدا لمقابلة حبر الكاثوليك الأكبر بابا الفاتيكان في ذلك الوقت لمعاتبته علي تبريره العدوان الإيطالي علي إثيوبيا, ومناشدته العدول علي موقفه؟و هل نعلم أنه مع وقوع الحرب في أكتوبر عام1935 افتتح الأمير عمر طوسون حملة التبرعات ب500 جنيه زادها إلي ألفي جنيه في غضون ايام, ثم توالت التبرعات من الشعب المصري حتي أنها فاقت التبرعات التي كانت تجمعها لجنة مناصرة القضية الفلسطينية في ذلك الوقت التي كان يرأسها عبد الرحمن باشا عزام, الذي أصبح فيما بعد أول أمين عام للجامعة العربية؟! هل نعلم أن اللجنة أوفدت أطقما طبية مجهزة من كافة التخصصات, وأطقم مهندسين ومقاتلين برئاسة الأمير إسماعيل داود مدفوعة الأجر بالكامل, في حين منحت الحكومة لمتطوعيها إجازات مفتوحة من أعمالهم, ناهيك عن إرسال كميات هائلة من الإغاثة الطبية والغذائية والملابس؟ وهل نعلم أن العديد من المتطوعين المصريين سقطوا شهداء جنبا إلي جنب مع إخوانهم الإثيوبيين ودفن العديد منهم هناك؟ هل ندرك هذ التاريخ الرائع الموثق لكي نتوجه به إلي الشعب الاثيوبي الشقيق لكي نقول له:' لا تسمع للمغرضين, نحن لك وبك... نحن منك, وأنت منا؟ هل نحن علي استعداد لكي نجهد أنفسنا قليلا بالبحث في ماض وحاضر هو بالفعل مشرف ومشرق, وإذا عرض من دون أية محسنات, لا أشك في أنه سيذكر الاثيوبيين بأن نهر النيل وصلنا ولم يفرقنا, وبأنه علي الأهمية القصوي لمياه النيل لمصر, فإنها لم تكن تحرك الأخيرة لنصرة إثيوبيا في العديد من أزماتها الطاحنة. ففي زمن العدوان الإيطالي علي سبيل المثال, كانت بريطانيا تضمن بالتوافق مع إيطاليا المياه لمصر, إلا أنه كما قالها عثمان باشا محرم وهو يتوسط لإثيوبيا في لندن:'... لقد ذقنا مرارة وألم الاحتلال, فلا نريد لإخواننا الإثيوبيين أن يجرعوا نفس الكأس المرير...'. إنه الحب, الذي يحيي ويرطب القلوب, قبل المياه التي ترطب الحلوق... هذا المقال نشر في صحيفة الهيرالد الإثيوبية بتاريخ2009/12/2 ويعقب عليه رئيس تحرير الصحيفة في مقال خاص للأهرام تدعيما للتواصل الثقافي بين مصر واثيوبيا