المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الجديد.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم السبت في الصاغة    شهداء وجرحى في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    واشنطن بوست: أمريكا دعت قطر إلى طرد حماس حال رفض الصفقة مع إسرائيل    "جمع متعلقاته ورحل".. أفشة يفاجئ كولر بتصرف غريب بسبب مباراة الجونة    كولر يرتدي القناع الفني في استبعاد أفشة (خاص)    الأرصاد الجوية: شبورة مائية صباحًا والقاهرة تُسجل 31 درجة    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    حي شرق بمحافظة الإسكندرية يحث المواطنين على بدء إجراءات التصالح    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    العالم يتأهب ل«حرب كبرى».. أمريكا تحذر مواطنيها من عمليات عسكرية| عاجل    حسين هريدى: الهدف الإسرائيلى من حرب غزة السيطرة على الحدود المصرية الفلسطينية    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    بعد انخفاضها.. أسعار الدواجن والبيض اليوم السبت 4 مايو 2024 في البورصة والأسواق    رئيس المنظمة المصرية لمكافحة المنشطات يعلق على أزمة رمضان صبحي    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    وكالة فيتش تغير نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى إيجابية    التموين تتحفظ على 2 طن أسماك فاسدة    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    صوت النيل وكوكب الشرق الجديد، كيف استقبل الجمهور آمال ماهر في السعودية؟    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. السبت 4 مايو 2024    هيثم نبيل يكشف علاقته بالمخرج محمد سامي: أصدقاء منذ الطفولة    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الإذاعى أحمد أبو السعود    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    فوزي لقجع يكشف حقيقة ترشحه لرئاسة الاتحاد الأفريقي    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    «صلت الفجر وقطعتها».. اعترافات مثيرة لقاتلة عجوز الفيوم من أجل سرقتها    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    تقرير: 26% زيادة في أسعار الطيران السياحي خلال الصيف    مصرع طفلين إثر حادث دهس في طريق أوتوستراد حلوان    احتراق فدان قمح.. ونفوق 6 رؤوس ماشية بأسيوط    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر وتثبت تصنيفها عند -B    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر إلى إيجابية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    شيرين عبد الوهاب : النهاردة أنا صوت الكويت    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    فريق طبي يستخرج مصباحا كهربائيا من رئة طفل    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر أخطر منافس لمصر في أفريقيا في البحث عن حب قديم‏-‏ جديد في إثيوبيا
نشر في الأهرام المسائي يوم 14 - 06 - 2010

يقال إنه لكي يدرك المرء تاريخ أمة‏,‏ فإنه من بين الأشياء التي يجب أن يطلع عليها هي متحفها الحربي‏;‏ فالمتاحف الحربية ليست فقط قطعا من الأسلحة التي تتراص لكي تتعرف عليها
وعلي قدراتها النيرانية وتاريخ استخدامها في الحروب‏,‏ وإنما هي تروي تاريخا عسكريا وسياسيا واقتصاديا وحضاريا ليس فقط للدولة صاحبة المتحف‏,‏ وإنما للإقليم الذي يضمها والدول التي تقع فيه‏.‏ ومن هذا المنطلق‏,‏ فإن المتاحف الحربية تعد بمثابة أكف للأمم تقرأ فيها تاريخا وحاضرا ومستقبلا‏.‏
أتذكر أنني في العام‏2000‏ وفي بداية عملي مراسلا لصحيفة الأهرام المصرية في جنوب أفريقيا‏,‏ أنني قررت أن أطالع تاريخ وحاضر‏-‏ وبناء علي ذلك مستقبل‏-‏ جنوب أفريقيا بزيارة متحفها الحربي الواقع في مدينة جوهانسبرج‏,‏ وهو متحف بديع يحوي تاريخ‏,‏ ليس فقط جنوب أفريقيا‏,‏ وإنما تاريخ القارة بأسرها‏,‏ بل وجانب مهم من تاريخ العالم‏.‏
كنت أجول في ساحات المتحف حتي جمدت أمام دبابة وضعت أمامها لافتة كتب عليها‏:'‏ دبابة مصرية سوفيتية الصنع وقعت في أسر جيش‏'‏ الدفاع‏'‏ الإسرائيلي في منطقة الحسنة وسط سيناء يوم التاسع من يونيو عام‏1967‏ خلال حرب الأيام الستة‏'.‏
بالطبع كان يوجد علي اللافتة معلومات أخري مغلوطة عن هذه الحرب‏,‏ ومن بينها أن تلك الحرب كانت دفاعية من إسرائيل ردا علي التهديدات المصرية لها‏,‏ بالرغم من أن الواقع هو العكس تماما‏,‏ بشهادة مؤرخين ثقاة ليسوا مصريين‏.‏ وتختتم اللافتة بأن هذه القطعة أهديت من حكومة إسرائيل إلي حكومة جنوب أفريقيا‏'‏ العنصرية‏'‏ في ذلك الوقت‏.‏
والسؤال هو‏:‏ هل تصحيح الوعي الجمعي للشعوب هو مسئولية سياسية أم إعلامية؟ وهل هي مسئولية الجانب الذي تتعرض صورته الذهنية للتشويه والافتراء‏,‏ أم هي مسئولية الجانب الذي يختزن هذه الصورة‏,‏ أم هي مسئولية مشتركة علي الجانبين؟
وفي هذا السياق‏,‏ فإنني أظن أنها مسئولية مصرية إعلاميا وسياسيا لمنع تشوية الوعي الجمعي وبث صورة ذهنية خاطئة مخالفة تماما لحقيقة لدي شعوب شقيقة‏.‏
وقضية علاقات مصر مع دول حوض النيل وأثيوبيا في القلب منها لا لا يسبقها في الأهمية قضية أخري‏,‏ كما أنها قضية ضخمة من حيث الحجم‏,‏ ناهيك عن كونها متعددة الجوانب‏:‏ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإعلاميا‏.‏ إلا إنه بجانب تعددها‏,‏ فإن هذه الجوانب للعلاقات تتداخل في بعضها البعض‏;‏ فمن الذي يمكنه أن يقرر من أين ينتهي السياسي ليبدأ الاقتصادي؟ ومن أين ينتهي الاقتصادي لكي يبدأ الاجتماعي؟ ومن أين ينتهي كل ذلك‏,‏ لكي يبدأ الإعلامي؟ وعلي أية حال‏,‏ فإنني في هذا المقام‏,‏ سألزم نفسي بالجانب الإعلامي الذي يتماس مع كافة الجوانب الأخري‏.‏
في العام‏2004‏ كنت محظوظا بأن واتتني الفرصة للذهاب إلي إثيوبيا‏,‏ ذلك البلد الجميل شعبا وأرضا‏;‏ حضارة وقيما‏,‏ وهو الذي يعد الأقرب لشعب مصر والسودان علي كافة الأصعدة‏,‏ بما في ذلك الملامح الجسدية‏.‏ إلا إنه بقدر سعادتي بوجودي في بلد لم اشعر فيه بالغربة الحضارية‏,‏ ولا الإنسانية‏,‏ إلا إنني صدمت من تلك الصور الذهنية شديدة السلبية التي لا علاقة لها بحقيقة مصر من حيث اتهامها بالوقوف ضد المصالح الاقتصادية لإثيوبيا‏,‏ أو مشاعر المصريين‏,‏ من حيث اتهامهم بالتعلق بميراث إمبريالي استعماري‏.‏
‏*‏ هل يعلم الشعب الإثيوبي الشقيق أن مصر ممثلة في البنك الأهلي المصري أول مصرف عصري في مصر‏-‏ هي التي أقامت أول نظام مصرفي اقتصادي ومالي حديث في أثيوبيا بإنشائها بنك الحبشة في العام‏1905‏ وذلك في زمن الخديوي عباس حلمي الثاني والإمبراطور منليك الثاني رحمهما الله؟ وقد جاء بنك الحبشة فرعا للبنك الأهلي المصري‏,‏ حيث تولي‏-‏ فيما تولي‏-‏ مسئولية سك العملة‏,‏ وطبع الأوراق المالية‏,‏ والتبادل الحر في الذهب والفضة‏,‏ وتخزين البضائع‏,‏ واستثمار المال العام‏,‏ بمعني أخر كان بنك الحبشة بمثابة البنك المركزي والتجاري الوحيد في أثيوبيا‏,‏ وقد كانت جمعيته العمومية تعقد في مقر البنك الأهلي في وسط مدينة القاهرة‏.‏
‏*‏ وهل يعلم الأخوة الإثيوبيون بأن مصر قامت بتسليم هذا البنك في العام‏1931‏ طواعية إلي الحكومة الأثيوبية تسليم مفتاح بعد أن بلغ أشده؟
‏*‏ هل يعلم الإخوة في إثيوبيا مدي الحفاوة الشعبية قبل الرسمية التي استقبلت بها الأميرة مينين زوجة ولي العهد الإثيوبي راس تفري ماكونين الإمبراطور هيلاسيلاسي فيما بعد‏-‏ خلال زيارتها مصر في عام‏1923,‏ وذلك قبل أن تصل هذه الحفاوة قمتها خلال زيارة ولي العهد في عام‏1924‏ لدرجة أن جموع الشعب كادت أن تحمل السيارة التي كانت تقله إلي مقر إقامته في فندق شيبرد المطل علي نيل القاهرة‏,‏ وقد تكرر هذا المشهد الشعبي في كل مدينة زارها الراحل العظيم بداية من الإسكندرية شمالا إلي أسوان جنوبا‏,‏ ومن دون أية ترتيبات رسمية؟
‏*‏ هل يعلم الإخوة الإثيوبيون أن الملك فؤاد حاكم مصر في ذلك الوقت حرص خلافا لقواعد البروتوكول علي استقبال ولي العهد الإثيوبي شخصيا وأن يمنحه أعلي الأوسمة في الدولة المصرية وهو الوشاح الأكبر من نيشان محمد علي‏,‏ وهو جد ملك مصر في ذلك الوقت ومؤسس مصر الحديثة‏,‏ في حين منحه ولي العهد نيابة عن الإمبراطورة زوديتو الوشاح الأكبر من نيشان سليمان؟
‏*‏ هل يعلم أخوتنا في أثيوبيا أن قيادات الدين الإسلامي في مصر احتجوا علي استئثار المزارات القبطية بزيارات الراحل العزيز والجليل راس تفري ماكونين‏,‏ من منطلق رغبتهم في الترحيب بالرجل الذي قام جده الأكبر بإجارة المسلمين الأوائل الفارين بدينهم من اضطهاد قريش في الجزيرة العربية في القرن السادس الميلادي؟
‏*‏ هل قرأ إخواننا في أثيوبيا بعضا مما سجله فرج ميخائيل موسي السكرتير الثاني لمفوضيتنا في ألمانيا في مذكراته عندما أبلغ بتكليفه أن يكون أول قنصل لمصر في أديس أبابا في العام‏1929‏ ؟ هل يعلم الإخوة في أثيوبيا الحبيبة أن أول دبلوماسي مصري في بلادهم كاد أن يطير فرحا بانتقاله من أوروبا إلي بلادهم‏,‏ وهي الفرحة التي تحولت إلي حالة عشق وهيام وشت بها تقاريره المرسلة لوزارة الخارجية‏,‏ ناهيك عن مذكراته الشخصية؟ وهل يدرك الإثيوبيون أن هذا الحب الذي عاشه أول قنصل مصري في بلادهم‏,‏ مثل حالة عامة لغالبية الدبلوماسيين المصريين الذين تعاقبوا في ذلك الزمان علي بلادهم‏,‏ ولدرجة دفعتهم للتوصية بإلحاح بضرورة تدريس اللغة الإمهرية في التعليم الأساسي في مصر‏,‏ وهي التوصية التي أخذ بها للأسف فقط في التعليم الجامعي؟
للأسف‏,‏ فإنه لا الأخوة الإثيوبيين‏,‏ ولا حتي المصريين يدركون هذه الحقائق التي تؤكد كنموذج حي وعملي أن مصر لم ولن تقف في وجه المصالح الاقتصادية الإثيوبية‏,‏ وإنما العكس هو الصحيح‏,‏ وبالدليل الموثق‏.‏ في الوقت ذاته‏,‏ فإن مصر لم ولن تكون دولة إمبريالية تتعلق بميراث استعماري
المقاومة المصرية للعدوان الإيطالي علي إثيوبيا‏...‏ تاريخ متآمر عليه ومستقبل يمكن إصلاحه‏!‏
ففي ثلاثينيات القرن العشرين كان قد مر علي احتلال بريطانيا لمصر‏58‏ عاما‏,‏ وهي نفس الفترة التي شهدت فيها الساحة الدولية تغيرات أدت ببريطانيا إلي أن تتجاوب مع أطماع إيطاليا الفاشية في أثيوبيا‏,‏ لكي تبدأ روما سلسلة من التحرشات بأديس أبابا لافتعال مبررات للعدوان عليها‏,‏ ثم احتلالها‏.‏
طبائع الأمور كانت تقول بأن مصر المحتلة‏,‏ لم يكن لها أن تستطيع أن تقف في وجه هذه التفاهمات الدولية‏,‏ باعتبار أنه لم يكن يسمح لها بأن تصوغ سياسات خارجية مستقلة عن دولة الاحتلال وهي بريطانيا‏,‏ وبالتالي‏,‏ فإن المنطق كان سيستقيم بأن تخضع مصر لذلك المخطط الذي استهدف احتلال إثيوبيا‏.‏
كانت تلك هي حسابات كل من بريطانيا وإيطاليا‏,‏ إلا أن ما لم تدركه الدولتان‏,‏ أن الحب خارج كل هذه الحسابات‏,‏ وعلي هذا جرت الرياح في مصر بما لم تشته الدولتان الاستعماريتان‏,‏ مع الوضع في الاعتبار أن المسالة بدأت برياح شعبية‏,‏ تحولت في وقت قياسي إلي إعصار حرك مواقف رسمية مصرية متحدية لمواقف الدول الاستعمارية‏.‏
فبمجرد بدء التحرشات الإيطالية‏,‏ بدأت الضغوط الشعبية في مصر علي الحكومة لاتخاذ موقف مؤيد لأثيوبيا‏,‏ وقد أخذت هذه الضغوط أشكالا عدة بداية من المسيرات ووصولا إلي المظاهرات التي عمت البلاد من أقصي الشمال إلي أقصي الجنوب‏.‏
وقد أثمرت هذه الضغوط الشعبية عن قيام حكومة مصر بتخصيص مبني في مدينة بورسعيد لحكومة الراحل العظيم جلالة الإمبراطور هيلاسيلاسي لكي يكون مقرا لقنصليتها‏.‏ إلا أن هذا المبني لم يكن كأي مبني‏,‏ كما أنه لم يكن يحتل أي موقع‏!‏ فقد اخترات الحكومة المصرية مبني يقع علي المدخل الشمالي لقناة السويس‏,‏ وهو ما كان لافتا للنظر‏;‏ فالنشاط القنصلي يمكن أن يمارس من مقر داخل المدينة وليس علي رأس القناة‏!‏
الشاهد‏,‏ أن الاختيار الدقيق لهذا المبني قصد به في الحقيقة أن يكون موقعا للاستطلاع تستخدمه الحكومة الإثيوبية لرصد القطع البحرية الإيطالية المتوجه إلي الصومال الإيطالي وإريتريا لعمل حشد عسكري تمهيدا للعدوان علي إثيوبيا‏.‏
وبالطبع‏,‏ فإن بريطانيا أدركت علي الفور مغزي اختيار مصر مدينة بورسعيد مقرا للقنصلية الإثيوبية‏,‏ وبالتأكيد فإنه لم يفتها انتقاء الحكومة المصرية لمبني يطل علي المدخل الشمالي لقناة السويس‏,‏ إلا أنها لم تستطع أن تغير من هذا الواقع‏,‏ وإن سجلت تحفظها علي القرار المصري‏.‏
وقد تمثل المطلب الرئيسي في ذلك الوقت في قيام الحكومة إلغاء جوازات سفر العمال المصريين الذين كانت إيطاليا تستأجرهم للعمل في قواعدها العسكرية في شرق أفريقيا‏,‏ كما طالبت المظاهرات الحكومة بإلغاء حقوق المرور الجوي للطائرات الإيطالية في أجواء مصر‏.‏
وبالرغم من استياءها من تلك التحركات‏,‏ إلا أن الحكومة المصرية أقنعت بريطانيا بحتمية الاستجابة للمطلب الجماهيري حتي لا يتحول إلي حركة شعبية شاملة تضر بمصالح بريطانيا‏.‏
وعندما لم توقف هذه التحركات إيطاليا عن سعيها الشرير‏,‏ وبدا أنها بصدد شن عدوانها بمجرد توقف موسم مطر عام‏1935‏ في إثيوبيا‏,‏ تطور الموقف المصري تطورا نوعيا علي الصعيدين الشعبي والرسمي‏.‏ ففي أغسطس من العام نفسه‏,‏ قام الدكتور عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين بتأسيس جمعية ضمت كبار رجال الدولة ورجال الدين الإسلامي والقبطي‏,‏ والعديد من المتخصصين في كافة المجالات لنصرة أثيوبيا‏.‏
وقد طالبت الجمعية في أول بيان لها بإغلاق قناة السويس في وجه القطع البحرية الإيطالية‏,‏ إلا أن بريطانيا المحتلة لمصر تحججت باتفاقية القسطنطينية التي تنظم حركة الملاحة في قناة السويس دوليا‏,‏ والتي لا تسمح لمصر بإغلاق القناة في وجه دولة ليست في حالة حرب معها‏,‏ فكان رد اللجنة تشكيل وفدا توجه لمقابلة بابا الفاتيكان في ذلك الوقت لمعاتبته علي إصداره بيانا يبرر فيه عدوان إيطاليا علي إثيوبيا‏.‏
وبالرغم من رفض البابا استقبال المصريين‏,‏ إلا أن الوفد اجتمع مع الكاردينال الذي يتولي وزارة الخارجية وسلمه الاحتجاج‏.‏ ويلاحظ في هذا الشأن أن الجمعية التي تأسست‏,‏ والوفد الذي بعثت به للفاتيكان كان من المسلمين وليس من أقباط مصر‏,‏ وذلك في بادرة لها دلالاتها‏,‏ ألا وهي أن حب مصر والمصريين لإثيوبيا وشعبها‏,‏ تجاوز حدود الدين‏,‏ لكي يمتد إلي مناطق حضارية وتاريخية أرحب‏,‏ لها علاقة برابطة الدم‏.‏
في الوقت ذاته‏,‏ فإن تشكيل هذه اللجنة عكس مدي الحب الذي تحظي به إثيوبيا في مصر‏,‏ ويكفي أن نعلم أنه من بين الأعضاء السيدة هدي شعراوي قرينة رئيس وزراء مصر وزعيمها الشعبي سعد زغلول باشا‏,‏ كما أنه مع بداية العدوان ترأس الجمعية الأمير إسماعيل داوود ابن خالة الملك فؤاد عائل مصر‏,‏ في حين لعب دور الأب الروحي للجمعية الأمير عمر طوسون حفيد إبراهيم باشا‏,‏ نجل محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة‏.‏ عوم اشتداد العدوان‏,‏ تبدت بطولات المصريين جنبا إلي جنب مع إخوانهم الإثيوبيين سواء في أعمال القتال‏,‏ أو الإسناد الطبي والهندسي‏,‏ لدرجة أن اتصال رئيس البعثة الأمير إسماعيل داوود كان مباشرا مع الإمبراطور هيلاسيلاسي الذي كرم البعثة المصرية عدة مرات‏,‏ كما أنه شارك في تشييع جنازات بعض من شهدائها الذين سقطوا قتلي خلال الحرب‏,‏ ودفن الكثيرون منهم في أرض إثيوبيا الطيبة‏,‏ وذلك فيما عدا اثنين رجع جثمانيهما مع طاقم مصري كان عائدا للقاهرة لكي يحل محله طاقم آخر‏.‏ وقد كانت جنازة الشهيدين شعبية ورسمية مهيبة اخترقت شوارع العاصمة مدة ساعات‏.‏
الشاهد‏,‏ أن هذا التاريخ الرائع الموثق يتطلب أسفارا لكي يروي‏,‏ وللأسف فإنه لا أحد علي الجانبين المصري والإثيوبيي يدري به‏,‏ إلا إننا في هذا المقام نناشد الباحثين في البلدين الشقيقين أن ينهضوا بمسؤولية واجبة تجاه شعبيها‏,‏ وتجاه التاريخ الذي لن يرحمنا إزاء تقصيرنا في حق الأخوة‏.‏ في الوقت ذاته‏,‏ فإننا نقول للشعب الاثيوبي الشقيق‏:'‏ لا تسمع للمغرضين‏,‏ فنحن في مصر لك وبك‏..‏نحن منك‏,‏ وأنت منا‏'.‏
يجب أن نقول لإخواننا الإثيوبيين إنه بالرغم من الأهمية القصوي لمياه النيل للمصريين‏,‏ فإن هذه المياه لم تكن تحرك مصر لنصرة أثيوبيا في العديد من أزماتها الطاحنة‏.‏ ففي زمن العدوان الإيطالي علي سبيل المثال كانت بريطانيا تضمن‏?‏ بالتوافق مع إيطاليا‏?‏ المياه لمصر‏.‏
ولعل كلمات الوزير والسياسي الراحل عثمان محرم باشا وهو يتفاوض مع الإنجليز لدفعهم للضغط علي إيطاليا لوقف عدوانها‏,‏ تعبر بوضوع عن حالة الحب الشديدة التي تتملك المصريين تجاه إثيوبيا‏,‏ حيث قال مخاطبا محتليه البريطانيين‏:'...‏ لقد ذقنا مرارة وألم الاحتلال علي أيديكم‏,‏ فلا نريد لإخواننا الإيطاليين أن يجرعوا كأس الاحتلال علي أيدي الإيطاليين‏...'.‏
إنه الحب الذي يحرر ولا يستعبد‏..‏ إنه الحب الذي كان علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث للتأكيد علي حتمية تحرر مصر من الاحتلال البريطاني لضمان بقاء شقيقتها إثيوبيا حرة‏..‏إنه الحب‏,‏ الذي يحيي القلوب ويرطبها‏,‏ وليس مجرد مياه ترطب الحلوق‏.‏ وبالرغم من وقوع إثيوبيا تحت الاحتلال الإيطالي‏,‏ إلا أن ذلك لم يوقف كفاح مصر لرفع ذلك الظلم الواقع علي تلك الدولة الشقيقة‏,‏ إلا أن ذلك قصة أخري يمكن أن نستشرف بناء عليها مستقبل العلاقات بين الدولتين‏,‏ وسبل متاحة وميسرة ليس فقط لتجاوز ما يبدو بأنه أزمة مياه‏,‏ في حين أنها في الحقيقة أزمة سياسية مفتعلة‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.