إذا لم تنتخب الجمعية التأسيسية وتباشر عملها لوضع مشروع الدستور الجديد قبل انتهاء المرحلة الانتقالية وتولي الرئيس المنتخب, سيكون هذا فشلا جديدا للأحزاب السياسية الأساسية باتجاهاتها المختلفة الإسلامية والليبرالية واليسارية والقومية. فقد أخفقت هذه الأحزاب في توفير حد أدني من الأجواء الصالحة في أول برلمان تعددي حر منذ نحو ستة عقود. كما عجزت عن التحرر من أسر أزمة عدم الثقة المتبادلة, وعجزت عن التقدم خطوة باتجاه بناء ثقافة الحوار والتوافق والعمل المشترك. وظهر هذا واضحا في أدائها البرلماني الذي أحبط الكثير ممن وقفوا لساعات في طوابير طويلة لانتخابه في ماراثون لا سابق له في تاريخنا. غير أن الأكثر وضوحا في هذا كله هو أزمة الجمعية التأسيسية التي ستضع مشروع الدستور الجديد بعد أن ينتخبها الأعضاء غير المعينين في مجلسي الشعب والشوري. فقد دخلت هذه الجمعية في أزمة ممتدة كانت متوقعة منذ أن عقد المجلسان اجتماعهما المشترك الأول في3 مارس الماضي, وانفجرت في الاجتماع الثالث الذي عقد في24 من الشهر نفسه وتفاقمت بعيدة. فقد أثارت نزاعا قضائيا انتهي بحكم أصدرته محكمة القضاء الإداري أوقف عملها, وصراعا سياسيا لا يزال مستمرا بالرغم من أن الجهود التي بذلت لحلها أثمرت اتفاقا شبه نهائي علي معايير محددة تنتخب علي أساسها جمعية تأسيسية جديدة. فلا تزال أزمة عدم الثقة تخيم علي الأجواء. وما برحت الحواجز النفسية بين بعض الأحزاب عائقا لا يستهان به أمام التقدم في عملية إعداد مشروع الدستور الجديد. ويتحمل البرلمان أضرار هذه الأزمة لأنه يبدو عاجزا عن القيام بدوره في انتخاب جمعية تؤسس لعصر دستوري جديد في مصر. ولا يقتصر الضرر الذي لحق بالبرلمان من جراء هذه الأزمة علي صورته التي اهتزت, بل امتد إلي دور أعضائه في إعداد مشروع الدستور الجديد. فقد شاع أن الحكم القضائي, الذي قضي بوقف عمل الجمعية التأسيسية التي انتخبت في 24 مارس الماضي وحدث نزاع عليها, يفرض عدم ترشيح أي من أعضاء البرلمان عند إعادة انتخابها. وذهب البعض إلي حد اعتبار عضوية البرلمان شرطا مانعا لعضوية الجمعية التأسيسية. غير أن هذا موقف متطرف لا يقل تعسفا عن الموقف الذي بدأت عنده أزمة الجمعية التأسيسية, وهو استئثار البرلمان بنصف عدد أعضاء هذه الجمعية (خمسون من أصل مائة). ولعل القراءة المنصفة للحكم القضائي المشار إليه تفيد أنه يمنع استئثار البرلمان لنفسه بحصة محددة في الجمعية التأسيسية, ولكنه لا يحظر وجود بعض أعضاء مجلسي الشعب والشوري فيها إذا انتخبوا باعتبارهم ممثلين لأحزاب أو نقابات أو هيئات أخري وليس لكونهم برلمانيين. والحال أن أطروحة منع البرلمان بصفته المؤسسية كسلطة تشريعية من التمثيل في الجمعية التأسيسية يمكن أن تكون مفهومة بالرغم من أن السلطتين التنفيذية والقضائية ممثلتان فيها بشكل مباشر. فهناك تمثيل للحكومة في مجملها ثم لكل من القوات المسلحة والشرطة. وهما من مؤسسات السلطة التنفيذية. كما أن السلطة القضائية ممثلة من خلال مختلف هيئاتها وهي محكمة النقض والدستورية العليا ومحاكم الاستئناف ومجلس الدولة والنيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة. ومع ذلك فقد نجد منطقا معقولا في منع السلطة التشريعية من التمثيل لأنها هي التي تنتخب الجمعية التأسيسية. ولذلك لا يصح أن تستأثر لنفسها ابتداء بحصة في هذه الجمعية. وهذا هو الخطأ الذي ارتكبه البرلمان عندما استأثر لنفسه بنصف أعضاء الجمعية التأسيسية, علي نحو رأي فيه كثيرون نوعا من التعسف في استخدام حقه في انتخاب هذه الجمعية. ولكن هذا المنطق المعقول ينتفي عندما يتعلق الأمر بأعضاء في البرلمان هم في الوقت نفسه قياديون في أحزاب أو نقابات أو غيرها من الهيئات الممثلة في الجمعية التأسيسية, أو خبراء وأصحاب معرفة أو تجربة تفيد في عمل هذه الجمعية. ولذلك يوجد فرق جوهري بين تمثيل البرلمان باعتباره المؤسسة التي تمارس السلطة التشريعية ووجود بعض أعضائه في الجمعية التأسيسية ولكن ليس بهذه الصفة بل بصفات أخري لا صلة لها بكونهم نوابا عن الشعب. ويمكن أن يكون بينهم, بل يوجد فعلا, رؤساء أحزاب ممثلة في الجمعية التأسيسية. فهل يعقل منع حزب سياسي من اختيار رئيسه ليمثله في هذه الجمعية لمجرد أنه عضو في البرلمان؟ ومن الذي يملك أن يحدد لحزب أو آخر ممثليه في الجمعية أو يفرض عليه شروطا لا أصل لها في دستور أو قانون ولا تنسجم مع أي عقل ؟ ويعني ذلك أننا نجعل عضوية البرلمان شرطا مانعا للوجود في الجمعية التأسيسية. ويبدو الأمر, في هذا السياق المنبت الصلة بأي منطق سليم, وكأن عضوية البرلمان جريمة تستحق عقابا. والعجيب أن هذه الأطروحة التي تناقض أي منطق سليم تطرح علي نطاق واسع ويجري تداولها كما لو أنها مبدأ قانوني راسخ بدعوي أن أعضاء البرلمان هم الذين ينتخبون الجمعية التأسيسية, وأنه لا يصح لهم بالتالي أن يرشحوا أو ينتخبوا أنفسهم. والحقيقة أن المبدأ القانوني الراسخ هو العكس تماما. فالثابت في أصول الانتخابات منذ أن اهتدت البشرية إليها هو أن المرشح يجب أن يكون ناخبا وإلا بطل ترشيحه. فلا يمكن لمن لا يتمتع بالحق في الانتخاب أن يرشح نفسه أصلا. ولذلك كله أصبح واجبا الفصل بين استئثار البرلمان لنفسه بحصة في الجمعية التأسيسية وانتخاب بعض أعضائه في هذه الجمعية. وربما يكون تأكيد هذا الفصل ضروريا للتعجيل بحل أزمة الجمعية التأسيسية. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد