لا يزال السؤال عن صحة مشاركة أعضاء البرلمان في الجمعية التأسيسية لوضع مشروع الدستور الجديد يطارد هذه الجمعية. وما برح أصحاب الرأي الذي دعا إلي إبعاد أعضاء مجلسي الشعب والشوري عنها يجيبون عليه بالنفي ويؤكدون أن البرلمان- أي برلمان لا يصح أن يصنع مشروع دستور وفقا للتقاليد الديمقراطية. والحال أن هذا ليس أكثر من رأي مختلف عليه في العالم منذ أن أصبحت هناك دساتير. ويقوم هذا الرأي علي ثلاثة مبررات رئيسية تستحق المناقشة. أول هذه المبررات هو الاعتماد علي أطروحة قديمة ظهرت في الفقه الدستوري في أوائل القرن التاسع عشر, ثم أخذت في الانحسار إلي أن صارت تاريخا وهي أن المخلوق لا يخلق خالقه. ومؤدي هذه الأطروحة أن الدستور هو الذي يصنع البرلمان, وأن العكس لا يصح. فالدستور, وفقا لهذه الأطروحة, هو الذي يحدد سلطات الدولة بما فيها السلطة التشريعية التي يتولاها البرلمان وينظم العلاقات بين هذه السلطات. ولذلك لا يجوز للبرلمان الذي يحدد الدستور دوره وموقعه في النظام السياسي أن يضع مشروع هذا الدستور. وقد راجت تلك الأطروحة ردحا من الزمن خلال القرن التاسع عشر وحتي بداية القرن العشرين لأنها بدت منطقية في مرحلة كانت الحياة فيها بسيطة قبل التعقيدات التي اقترنت بالثورتين الصناعيتين الثانية والثالثة, ثم ثورة الاتصالات والمعلومات. كما لم تكن الدول الديمقراطية في تلك المرحلة ديمقراطية حقا قبل تعميم حق الاقتراع الذي ظل محصورا حتي نهاية القرن التاسع عشر في قطاع محدود من المجتمع. وعندما تطورت الممارسة الديمقراطية رأسيا في الدول الأوروبية التي بدأت فيها, وأفقيا من خلال انتشارها تدريجيا في باقي العالم, أصبح مستحيلا من الناحية العملية أن تصدر الدساتير كلها بطريقة واحدة. كما تبين أن فكرة الصانع والمصنوع ليست دقيقة حين تطبق علي العلاقة بين الدستور والبرلمان أو في الحياة السياسية بوجه عام. فقد كشف تطور الممارسة وتوسع نطاقها أن السياسة هي عملية Process متحركة وليست وصفة ثابتة, وأن فيها من التنوع ما يحول دون فرض قوالب محددة لا تتغير. ولذلك تنوعت طرق إصدار الدساتير, وأصبح للبرلمان دور متزايد في هذا المجال وخصوصا في الموجة الديمقراطية التي بدأت بالثورات علي الشيوعية في شرق ووسط أوروبا ثم الثورات ضد الدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية في نهاية ثمانينات القرن الماضي ثم في عقده الأخير. وليس هناك دليل علي هذا التنوع, وعلي أن أطروحة الصانع والمصنوع تقادمت وصارت في متحف التاريخ الدستوري, من أن الحكومات وهي مما يوجده الدستور أيضا صنعت مشاريع دساتير في بعض البلاد الديمقراطية. والمثال الأبرز هو الدستور الفرنسي الحالي الذي وضعت حكومة شارل ديجول مشروعه عام 1958 بتفويض من البرلمان. كان ذلك في لحظة التحول من الجمهورية الرابعة (البرلمانية) إلي الجمهورية الخامسة ذات النظام المختلط, والتي بدأت باستقالة حكومة فلمان في مايو 1958 ثم تكليف الجنرال ديجول بتشكيل حكومة أخري منحها البرلمان الثقة في مطلع يونيو من العام نفسه, وأوكل إليها مهمة إعداد مشروع دستور جديد واعتبرها سلطة تأسيسية. وتم انتخاب ديجول نفسه رئيسا عقب إصدار ذلك الدستور. أما المبرر الثاني للموقف الذي يرفض أي حضور لأعضاء البرلمان في الجمعية التأسيسية المصرية الجديدة فهو يعود إلي اعتقاد غير صحيح في أن هؤلاء الأعضاء سيتجهون إلي وضع مشروع دستور يدعم دور البرلمان. وهذا ليس مجرد اعتقاد خاطئ, بل أكثر من ذلك لأنه يوحي بأن من سيضع مشروع الدستور, أيا من يكون, سيسعي إلي تحقيق مصالح خاصة به وليس إلي المصلحة العامة. وهذه إهانة ليس فقط للبرلمان بل لأية جمعية تأسيسية بغض النظر عن طريقة تشكيلها. والحال أن هناك ميلا واسعا في الساحة السياسية إلي نظام مختلط وليس إلي النظام الذي يكون البرلمان هو محوره( النظام البرلماني), لأسباب موضوعية أهمها أن هذا الأخير لا يمكن أن ينجح بدون أحزاب عدة قوية. ولذلك فحتي من يفضلون النظام البرلماني بوجه عام, وبغض النظر عن موضوع الجمعية التأسيسية, يرون أن متطلباته لم تتضح بعد وأن نجاح الانتقال إلي نظام ديمقراطي يتطلب الأخذ بالنظام المختلط. يبقي مبرر ثالث للموقف الرافض عضوية نواب البرلمان في الجمعية التأسيسية ومشاركتهم في وضع مشروع الدستور الجديد, وهو الاعتقاد في أن هذا نوع من الانتخاب الذاتي الذي يعتبرونه أسوأ أنواع الانتخاب. ولكن الحقيقة أن الانتخاب الذاتي بوجه عام لا يعتبر أسوأ أنواع الانتخاب ولا أفضلها. فهو نوع من الانتخاب الشائع في داخل كثير من الأحزاب والمنظمات ذات الهياكل التنظيمية الهرمية, حيث ينتخب الأعضاء ممثلين لهم في مؤتمر عام يقوم بانتخاب هيئة قيادية أو أكثر من بين أعضائه المنتخبين. كما أنه معروف في النظام البرلماني الذي ينتخب فيه رئيس الجمهورية عادة من البرلمان وليس من الشعب. وفي كثير من الأحيان, بل في الأغلب الأعم, يكون هذا الرئيس من أعضاء البرلمان الذي ينتخبه. وهكذا يبدو أن الطعن في قيام أعضاء مجلسي الشعب والشوري بانتخاب عدد منهم إلي جانب آخرين من خارجهما لتشكيل جمعية تأسيسية تضع مشروع الدستور الجديد ليس أكثر من رأي يمكن الاتفاق أو الاختلاف عليه. ولكن الأهم من هذا الموضوع كله هو التوافق علي الدستور الجديد والتزام أصحاب الأغلبية البرلمانية بما سبق أن وافقوا عليه, وهو إبقاء الأبواب الأربعة الأولي من دستور 1971, أو أن تكون وثيقتا التحالف الديمقراطي والأزهر هما المرجعية في حال إعادة كتابة هذه الأجزاء.